بقلم الدكتور/
حسن سلمان
الحرية كلمة لها جاذبية خاصة وتتشوف إليها كل المجتمعات ولكن بقدر جاذبيتها والتطلع إليها وبالرغم من أهميتها وحب البشرية قاطبة لها , وسعيها لتحقيقها , إلا أن مفهوم الحرية عند الأمم والشعوب يختلف ويتباين باختلاف المنطلقات , واختلاف الأجيال والظروف والأحوال والآمال, فماذا تعني كلمة الحرية في اللغة والاصطلاح ؟
الحرية لغة: –
استخدمت العرب لفظ (حر) للتعبير عن كرام الناس وأشرافهم، كما عبرت به عن خيار الأشياء وحسن الأفعال والأعمال(1)
فالحرية بهذا الاعتبار هي ضد العبودية، كما استخدمت مفردات للتعبير عن مفهوم الحرية ك(عتق) (خلاص) (إطلاق سراح).
الحرية في الاصطلاح: –
لم ترد كلمة الحرية في القرآن الكريم، ولكن وردت مشتقاتها ومرادفاتها ودلالاتها مثل: تحرير ومحرر وعتق وحلال ولا اكراه، وغير ذلك من الألفاظ الدالة علي الحرية وعدم التقييد .
والمعني الاصطلاحي لا يكاد يخرج عن المعنى اللغوي فالحرية في الاصطلاح تأتي بمعنيين (2) :-
الأول: ضد العبودية، وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة , تصرفا غير متوقفا علي رضا أحد آخر.
الثاني: وهو تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء، دون معارض.
(واستخدم اليونان كلمة الحرية بمفهوم الانفلات من قبضة الآلهة التي تتآمر بالدوام على مصائر البشر وأقداره. كما اعتقد اليونان وفكرة الصراع بين الإنسان، أو مجابهة الإنسان للقدر , وعمله للتحرر من قبضته , وإن اقتضت الانفلات الكامل والتحرر من أي قيد من خارج ذات الإنسان , إلا أن ذات الفكرة هي التي شكلت مفهوم الحرية في الغرب وقامت عليها الحضارة الغربية المعاصرة , وبها تم النداء بالحرية المطلقة للإنسان , وبها صارت تلبية رغبات (الإنسان الفرد) غاية في حد ذاتها ومنتهي سعادته ) (3)
البعد الأصولي للحرية:–
يختلف الأساس الذي تقوم عليه قضية الحرية في الإسلام عن سائر المذاهب الأخرى, حيث يقوم مفهوم الحرية في الإسلام على ما يلي :-
- المساواة بين الخلق في العبودية للخالق، وهو معنى لا اله إلا الله وهو إفراد الخالق بالعبادة ومساواة سائر الخلق في العبودية , فالحرية في الإسلام تبدأ من العبودية الخالصة لله , والتحرر الكامل من غيره , وفي المذاهب الأخرى تبدأ بالتحرر والانفلات المطلق لتنتهي إلي أنواع من العبودية المذلة والأغلال.(4 )
- الكرامة الإنسانية:
يدور مفهوم الحرية في الإسلام حول إنسانية الإنسان وكرامته، قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء/ 70
فالإسلام ينص على تكريم الإنسان على سائر الخلق, وتفضيله بالعقل وسجود الملائكة له , وإنزال الكتب وإرسال الرسل , وتخييره بين الإيمان والكفر , مع تحمل مسئولية ما يترتب على مشيئته من إيمان أو كفر ونتائج ذلك من ثواب أو عقاب , قال تعالى:( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ…….) الكهف الآية (29)
ومن هنا يحرم على الإنسان أن يعرض كرامته لأي نوع من أنواع المذلة والامتهان والاسترقاق والعبودية لغير الله تبارك وتعالى.
فهذا التكريم الإلهي للإنسان جاء تمهيدا للمهمة التي نيطت بعهدته وهي الخلافة كما قال تعالي: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ….) البقرة الآية (30)
وقوله: (وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ ٱلْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنعام (165)
وهذه الخلافة المهمة الوجودية للإنسان – تعني استخلاف الله الإنسان لتنفيذ مراده في الأرض، وإجراء أحكامه فيها , وهذا معناه أن يكون الإنسان سلطانا في الكون ليباشر تلك المهمة والغاية الوجودية علي الوجه الأكمل عبر التفاعل مع الكون اعتبارا وتعميرا في خط العبودية لله تعالي .(5)
- جاءت الأحكام الشرعية بيانا للواجبات والحريات والحرمات حيث عرف الأصوليون الحكم الشرعي بقولهم ( هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً )(6).
ويتم تصور الحرية في الخطاب الشرعي . من خلال كلمة التخيير التي تنافي الإلزام والتقييد وقد بحث العلماء ذلك في باب المباح وتعريفهم له بقولهم (المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ولا مطلوب الإجتناب) (7) ويظهر من ذلك أن المباح الذي يستوي فيه الفعل والترك هو مقصود الشارع ومندرج تحت أحكامه ومتروك الأمر فيه للمكلف , إرادة للحرية والتخيير .
يقول العلامة بن عاشور رحمه الله ( فأما الحرية الكائنة في عمل المرء في الخويصة فهي تدخل في تناول كل مباح, فإن الإباحة أوسع ميدان لجولان حرية العمل , إذ ليس لأحد أن يمنع المباح لأحد, إذ لا يكون أحد أرفق بالناس من الله رب العالمين)(8)
وتتسع دائرة الحرية في الشريعة الإسلامية لتشمل مساحات أرحب باستيعاب مرتبة العفو في الشريعة , وما سكت عنه الشارع عموما, يقول الإمام الشاطبي رحمه الله عن هذه المرتبة ( يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو)(9) ونجد تأكيد ما سبق في قول النبي صلي الله عليه وسلم ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها, ونهي عن أشياء فلا تنتهكوها , وحد حدود فلا تعتدوها, وعفي عن اشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها) (10) فالنص النبوي اشتمل علي ثلاث مراتب هي : الواجبات والحرمات والحريات , وهي المعبر عنها بالعفو .
4. والحريات في الشريعة الإسلامية هي (منح إلهية) وكونها منح إلهية يخول الإنسان حقوقا لا سلطان لأحد عليها , يترتب علي ذلك جملة نتائج منها(3):-
(أ) أن مصدرها رباني , وتلك الربانية تعني أن مصدرها ومرجعها إلي الله تعالي, الذي هو أصل الحقوق والواجبات والحريات , وهي بذلك تعتبر دينا وشرعة .
(ب) الحريات كونها منح إلهية يكسبها صفة دينية مما يجعلها تتمتع بقدر كبير من الهيبة والقدسية بحكم مصدرها الإلهي فلا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل .
(ج) الحريات كونها منح إلهية يجعلها بمنأى عن كل الفوارق الجنسية والإقليمية والاجتماعية فتكتسب بذلك بعدا إنسانيا، حيث لا تفاضل بين الناس إلا بالتقوى .
(د) ارتباط الحريات بالله تعالي يعطيها ثباتا وشمولا لأن الله تعالي أعلم بحاجات الخلق التي تحقق لهم السعادة والمصلحة، قال تعالي: (أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ)سورة تبارك(14).
(هـ) ارتباط الحريات بالله تعالي كفل لها التوازن فجاءت بعيدة عن الإفراط والتفريط, الإفراط في حقوق الأفراد علي حساب مصلحة الجماعة, أو التفريط في حقوقهم وحرياتهم لمصلحة السلطة لأن المانح لهذه الحريات هو الله تعالي بتشريع منه, لا الأفراد حتي يغالوا فيها , ولا الدولة حتي تزيد في سلطانها علي حساب الأفراد, بالإضافة إلي أن الحريات في الإسلام قيدت بالواجبات والحرمات وبهذا ابتعد الإسلام عن الإفراط في حريات الأفراد علي حساب الجماعة كما في الفكر الغربي الرأسمالي, أو التفريط في حرياتهم لحساب الجماعة كما في الفكر الماركسي, والنظامان متطرفان بالقياس إلي خصيصة الوسطية والاعتدال الإسلامي.
ومحصول الكلام أن الإسلام جاء مقررا للحرية في أقصي درجاتها تحريرا للوجدان في العبودية لغير الله وذلك بالتحرير من سلطان الخوف علي الحياة أو الرزق, أو الخوف علي المكانة والنصب والجاه أو من خلال تسلط الإنسان علي أخيه الإنسان أو الاستعباد من خلال الشهوات والشبهات والأهواء, كما جاء الإسلام محرراً الإنسان من عبودية ذاته, وتعظيم شخصه ومكانته إلي جانب أن الإسلام جاء محرراً للعقول من الخرافات واتباع الأوهام والتقليد بغير بينة وبرهان, وهكذا فقد جعل الإسلام حرية التدين خيارا لا إكراه فيه(12)
كما ورد في العديد من الآيات, قال تعالي: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…)سورة البقرة (256 ) وقال تعالي (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)سورة يونس (99) وقال تعالي:(أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) سورة هود (28) وقال تعالي : (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) سورة الغاشية(22), ففي الآيات دلالة قاطعة علي أنه ( يجب أن يكون عقل الإنسان حرا مختارا, وضمير الإنسان حرا, ووجدان الإنسان حرا, وله أن يختار الكفر بالذي منحه هذا العقل وهذا القلب وهذه الحياة وعليه مااكتسب )(13) وتتفرع عن هذا الأصل العام كافة الحريات الفرعية كالحرية الدينية والفكرية وحرية التملك والحرية الشخصية , وغيرها من الحريات, ولسنا بصدد الدخول في تفاصيل ذلك بقدر ما نتناول ماله صلة بموضوع البحث وهو الحرية السياسية باعتبارها ضمانة أساسية من ضمانات فاعلية المشاركة الشعبية , وتعني الحرية السياسية كما يذهب الدكتور أحمد شوقي الفنجري إلي أنها ( جماعية القيادة وعدم استئثار فرد واحد, أوفئة أوطبقة خاصة بالحكم, كما تعني التزام الحاكم برأي الجماعة الأغلبية ) (14)
ولا يتحقق ذلك إلا بوجود أمرين (15):-
أحدهما :- حق المشاركة في السلطة بأعلى مستوياتها, إدارة شئون المجتمع بمختلف صورها, والمساهمة في حل مشاكله, وحتى يتأتى ذلك يجب إلغاء التفرقة أو التمييز بين الناس, لأي سبب سوى الكفاءة, بمعني تحقيق المساواة فلا تمايز بين الناس بسب الغنى كما في المجتمع الرأسمالي أو الإقطاعي, فلا يكون للأغنياء نفوذ خاص أو فرص أكثر بسبب الغنى وقد نص القرآن علي هذا المبدأ بقوله (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ…) سورة الحشر الآية (6) كما تنفي الحرية السياسية التمايز الو راثي قال تعالى في شأن إبراهيم عليه السلام (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)سورة البقرة الآية (129) كما أن الحرية السياسية ضد التمايز الطبقي, قال تعالي: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات الآية (13)
و ثانيهما:- حق إبداء الرأي في من يقوم بإدارة دفة السلطة وتسيير الأوضاع العامة في المجتمع مدحا وقدحا.
وتتجلي حرية إبداء الرأي في إطار المجتمع في مايلي : –
الأولي : اختيار الحاكم ومبايعته واختيار ممثلي الأمة.
الثانية : ممارسة الشورى وإسداء النصيحة.
الثالثة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و يشتمل علي النقد السياسي ومحاسبة الحكام وحرية التعبير عن الرأي السياسي.
الرابعة : الدعوة إلي الحق بالحسنى من الجدل ولين من القول.
الخامسة: حرية الحق في سحب الثقة من الحاكم أو الحكومة.
السادسة: حرية التجمع والاجتماع السلمي للتعبير عن الرأي .
السابعة: حرية تأليف الجماعات والأحزاب والتنظيمات السياسية المعارضة للحكومة أو الموالية لها(16)
ضوابط الحرية السياسية:-
الحرية السياسية من أهم ضمانات فاعلية الشعوب ومشاركتها السياسية، فلا يمكن للمشاركة السياسية أن تكون فاعلة في غياب الحرية السياسية، وسيادة الطغيان والغلبة والقهر.
وتنطلق الحرية السياسية في الفكر الغربي من كون الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة , ولذا ترتبط بعدة حقوق ,منها حق المساهمة في السيادة الشعبية , وهي تنطلق من أن إرادة الشعب مصدر سلطة الحكومة والتي تجعل لكافة المواطنين الحق في الإسهام في إدارة شئون الدولة وتقلد المناصب بصرف النظر عن الدين أو اللون أو الجنس, كما ترتبط كذلك بحق التصويت, ومنها التصويت علي القوانين تعبيرا عن الإرادة العامة التي تقتضي أخذ رأي الشعب في تعديل القوانين القائمة, أو وضع قوانين جديدة(17).
ونجد هنا أن الإسلام يختلف في نظرته للحرية السياسية بناءً علي الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه المذهبية الإسلامية في نظرتها إلي الحريات وكذلك تشير إلي أن الحرية السياسية التي نتحدث عنها لابد أن تنضبط بالضوابط الآتية:-
- حاكمية الشرع, حيث أن الشريعة هي مصدر الحقوق والواجبات والحريات وأن كل فعل أو قول يخالف الشريعة فهو باطل وفاقد للمشروعية, ذلك أن الإسلام دين توحيدي قائم علي ربط الكون والإنسان والحياة بالله في الوجهة والقصد والمنتهي, وان كل حركة وسكون محكوم بتشريع صادر عن الله تعالي, لا سبيل للخروج أو الفكاك عنه إلا بقدر المروق والفسق عن دائرة الاستسلام لله اختيارا وأن إعطاء حق السيادة للشعب ليكون له الحق الكامل في التحليل والتحريم, يتناقض مع الرؤية الإسلامية في منطلقاتها الأساسية, يقول الإمام الشاطبي: (وأن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لاغيره) (18). وبناء علي ما سبق فإن الإسلام يمارس حرياته في إطار الضوابط الشرعية تحقيقا لأصل العبودية لله , ولا يجوز الاعتداء عليه من الفرد أو الجماعة مادام علي هذه الحال وإلا عد الاعتداء عليه ظلماً يجب محاربته.
2. أن لا تؤدي ممارسة الحريات إلى الإضرار بالغير فإن أدى إلي الإضرار بالغير كان ذلك تعسفا, ويكون المنع من هذا الوجه, لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار )(19), وقد فصل الإمام الشاطبي مسألة المنع من الإضرار, وخلاصة قوله ( أن جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذون فيه على ضربين :-
أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير, وهذا باق على أصله من الإذن.
ثانيهما : أن يلزم عنه الإضرار بالغير بقصد أو بغير قصد وهو علي ضربين :
الأول: أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار, كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير, إلى أن قال : وأما الثاني فهذا لا إشكال في منع القصد إلي الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير بين الإذن والمنع وهذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة(20).
3/ سد الذرائع واعتبار المآل:
عند الحديث عن الحريات وممارستها راعت الشريعة سد الذرائع واعتبار المآل فالطريق إلى الحرام حرام, وإلى المباح مباح فيأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ, ولكن له مآل على خلاف ذلك, فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها, فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية, وهو مجال للمجتهد صعب المورد, إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار علي مقاصد الشريعة .(21)
4/ الضوابط الأخلاقية : –
سعت الشريعة في أحكامها إلى تعزيز الرقابة الداخلية في الإنسان بتعزيز القيم الأخلاقية الفاضلة وتجنب مدنسات الأخلاق, فيمارس المسلم الحرية السياسية في ظل الضوابط الأخلاقية, فالخوض في أعراض الناس محرم, والسعي بين الناس بالتخرص وسوء الظن وتتبع العثرات , والسعي بفحش القول, قال الله تعالي:
﴿لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَیۡرࣰا وَقَالُوا۟ هَـٰذَاۤ إِفۡكࣱ مُّبِینࣱ﴾ [النور ١٢] وقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةࣰ وَلَا تَقۡبَلُوا۟ لَهُمۡ شَهَـٰدَةً أَبَدࣰاۚ…﴾ [النور 4] وقال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱجۡتَنِبُوا۟ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمࣱۖ وَلَا تَجَسَّسُوا۟ وَلَا یَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ﴾ [الحجرات ١٢] وقال تعالى: ﴿۞ لَّا یُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِیعًا عَلِیمًا﴾ [النساء ١٤٨] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) (22)
5/ الضوابط الإجرائية:
تحتاج ممارسة الحرية السياسية بالإضافة إلي الضوابط المنهجية والأخلاقية أعلاه , إلي ضوابط إجرائية, يتم التوافق عليها بين الدولة والمجتمع من خلال الجهاز التشريعي حتى لا تتحول ممارسة الحرية إلى نوع من الفوضى, ولكن الضوابط الإجرائية يجب أن لا تعود على اصل الحرية السياسية بالبطلان, لان الوسائل لا يجوز أن تعود على المقاصد بالتعطيل, بل يجب أن تكون خادمة لها, فالإجراءات وسائل مكملة والحرية مقصد من المقاصد العامة في السياسية الشرعية, يقول الإمام الشاطبي في هذه الضوابط ( والمكمل إذا عاد للأصل بالبطلان لم يعتبر )(23)
الهوامش:-
(1) انظر مادة حر لسان العرب لأبن منظور (راجع)
(2) انظر مقاصد الشريعة لأبن عاشور ص(390-391)
(3) راجع منهج القرآن في تقرير حرية الرأي الأستاذ إبراهيم شوقا ر دار الفكر المعاصر –بيروت ,دار الفكر –دمسق الطبعة الأولي رمضان 1423هـ نوفمبر 2002م
(4) انظر رسالة العبودية لشيخ الأسلام ابن تيمية دار الكتاب العربي بيروت 1987م
(5) خلافة الإنسان بين الوحي والعقل عبد المجيد النجار ص(47- 51) طبعة دار الغرب الإسلامي 1407هـ – 1987م
(6) الجامع لمسائل أصول الفقه عبد الكريم النملة ص19
(7) الموافقات للشاطبي (1\171)
(8) مقاصد الشريعة لابن عاشور ص 398
(9) الموافقات (1\253)
(10)أخرجه الدار قطني في السنن (4\171) طبعة دار المعرفة بيروت تحقيق السيد عبد الله هشام يماني
(11) انظر حرية الرأي في الإسلام دكتور محمد عبد الفتاح الخطيب ص 37- 47 كتاب الأمة العدد 122 ذو القعدة 1428هـ
(12) حرية الراي في الإسلام د. محمد عبد الفتاح الخطيب ص(51- 68)
(13) دلالات التراكيب محمد محمد ابو موسي ص243 الطبعة 2 القاهرة مكتبة وهبة 1408هـ – 1997م
(14) الحرية السياسية في الإسلام ص53 ط2 1403هـ – 1983م دار القلم الكويت
(15) انظر الحرية السياسية في الإسلام الفنجري ص54- 55 ومنهج القرآن في تقرير حرية الرأي ص30 ابراهيم شوقار
(16) انظر النظام السياسي في الإسلام ص59 الدكتور عبد العزيز عزت الخياط دار السلام للطباعة والنشر ط1 1420هـ – 1999م القاهرة .
(17)انظر إدمون رباط ص( 233- 245) نقلا عن النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية د.محمد أحمد مفتي د. سامي صالح الوكيل كتاب الأمة 25 ص74 مؤسسة الخليج
(18) الاعتصام (3\ 460)
(19) أخرجه ابن ماجه والحاكم
(20) الموافقات (3\53)
(21) المرجع السابق (5\ 177- 178)
(22) رواه البخاري في الأدب (23) الموافقات (2\ 27)