بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
أرسل الله رسله وأنزل كتبه لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وجعل هداياته وأوامره ونواهيه وأخباره متضمنة في كتبه المنزلة ومنها الكتاب العزيز الذي بعث الله به رسوله محمد عليه الصلاة والسلام فهو الدليل على مراد الله وعلى المسلم التعامل مع الدليل باعتباره الهادي للمطلوب شرعا وكونا ولقد نظر علماء الإسلام للدليل من عدة زوايا ليكون الدليل مقبولا وحجة وهداية وأول ذلك النظر في صحة الرسالة والنبوة وذلك بالتعرف على صدق الدعوى ومعلوم أن كافة الدعاوى يحتاج إلى بينات وهذا ما تم مراعاته في كل رسالة ورسول قال تعالى:
(لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزࣱ) [الحديد 25].
والبينات تختلف من رسول لآخر وكلها تؤدي لمقصود واحد وهو صدق الرسالة والرسول وهو المشهور بالمعجزات التي يستبين بها الحق من الباطل والصدق من الكذب وعند ثبوت الرسالة إجمالا عبر البينات التي شهد العقل بصحتها وقبولها والتسليم بها يلزم الإيمان والتسليم بها جملة وتفصيلا ثم يتفرع عن صحة عموم الرسالة طريقة التعامل مع الدليل الجزئي بعدة اعتبارات :
الأول: صحة الدليل الجزئي وهنا بطبيعة الحال فكل ما جاء في القرآن ثابت وصحيح جملة وتفصيلا ولا يتطرق إليه الشك من حيث الصحة والثبوت وأما الحديث النبوي فهو محل التحري والتثبت من أهل الاختصاص في الحديث فلا يجوز الاحتجاج بحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: النظر في الدليل من حيث دلالته على المطلوب هل هو قطعي الدلالة أم ظني الدلالة وهذا شامل للكتاب والسنة النبوية وهذه من الأمور التي اختص بها علم أصول الفقه فهو الذي يضبط الدلالات سواء كانت عقلية أو لغوية أو عرفية أو شرعية وبذلك يتم التعرف على دلالات النصوص على المطلوب وهي فرع ثبوت النص لأنها حكم (والحكم فرع الثبوت).
ومن خلال النظر في ثبوت الدليل وصحته ودلالته يتم تنزيله والعمل به وهذا يتطلب معرفة حال المكلف من حيث القدرة وعدمها وما يعتري التنزيل من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
وهذه المنهجية العلمية الدقيقة التي سلكها العلماء عبر التاريخ الإسلامي هي المنهجية العاصمة من الضلال والخروج عن النصوص الشرعية بالتأويلات المختلفة أو الاستدلالات الباطلة كما هو شأن أهل الأهواء والبدع وطرائقهم في الاستدلال وقد تناول العلامة الشاطبي ذلك باعتباره مناقضا لمراد الله في النصوص الشرعية ومقاصدها في الاهتداء بها والعمل على وفقها والخروج عن أهواء النفوس وحتى لا تكون المناقضة للشريعة بأي وجه كان يضع لنا الإمام الشاطبي المآخذ التي ينطلق منها أهل البدع في استدلالهم على ما هم عليه.
ويرى العلامة الشاطبي أن منهجية أهل البدع تقوم على اتباع المتشابه وترك المحكم كما في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله). ([1])
وتكون المناقضة للشريعة من أهل البدع بأسباب ثلاثة:-
1/ عدم الرسوخ في معرفة كلام العرب، والعلم بمقاصدها.
2/ عدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية .
3/ أن يجتمع الأمران السابقان معاً.
ولما كانت مسالك أهل الباطل لا حصر لها، فإن الإمام الشاطبي يعطي نماذج لمآخذ أهل البدع في الاستدلال ليقاس عليها وهي كما يلي:
1/ اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة المكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها، فإن هذه الأحاديث لا يبنى عليها حكم، ولا تجعل أصلاً في التشريع أبداً ، ومن جعلها كذلك ، فهو جاهل أو مخطئ في نقل العلم ، فلم ينقل الأخذ بشيء منها عمن يعتد به في طريقة العلم ولا طريقة السلوك ). ([2])
ولا تخفى الأضرار التي تترتب على الأخذ بالأحاديث الضعيفة والمكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، سواء في العبادة حيث يتعبد الانسان ربَّه بما لم يشرع، أو في المعاملات حيث يحصل تحريم أو تحليل دون إذن الشارع، وهذا افتراء علي الله، وقد يكون فيها حرج وعنت على خلق الله، وعلى ذلك فإن التشريعات أحكام والأحكام فرع لثبوت أدلتها، وفقاً لقاعدة العلماء القاضية بأن (الحكم فرع الثبوت ) وما لم يثبت لا يبني عليه حكم ولا ينسب الى الله تعالى .
2/ من مآخذ أهل البدع والأهواء رد الأحاديث التي جاءت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها). ([3])
ومما يندرج في ذلك محاولة التفلت من النصوص الصريحة لأنها تخالف ما عليه الناس الآن
في واقعنا المعاصر، سواء في القوانين الدولية أو غيرها كحكم الردة والزنا للمحصن وغيرها.
ومن ذلك أيضاً الزعم بأن الزمان تغير عما كان عليه الناس في الصدر الأول، بالرغم من عدم تغير مناط الحكم .
ومن ذلك المعارضة للنصوص الصريحة بالمصالح المتوهمة أو الملغاة، جهلاً بأصل مفهوم المصالح في الشريعة، ومنها تعطيل النصوص تحت ذرائع الضرورات، التي لا ضابط لها إلا بمحض الهوى واتباع الظن.
3/ تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية الذى به يفهم عن الله ورسوله:
فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ، ويدينون به ، ويخالفون الرَّاسخين في العلم ، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك.([4])
4/ انحرافهم عن الأصول الواضحة الى اتباع المتشابهات، التي للعقول فيها مواقف، وطلب الأخذ بها تأويلا، كما جاء ذلك في الآية السابقة من سورة آل عمران، وذلك أن كل دليل فيه اشتباه واشكال ليس بدليل في الحقيقة، حتي يتبين معناه ويظهر المراد منه. ([5])
وهنا تظهر أهمية رد الفروع والجزئيات الى الأصول والكليات، ورد المطلقات الى المقيدات، ورد المجمل الى المفصل أو المبين، ورد المتشابه الى المحكم، والنظر الى العموم وهل هو مخصص أم لا ؟ وإلا فإن المكلف يكون قد أخذ ببعض الكتاب دون بعض، والأصل أن تؤخذ الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الانسان، وفي ذلك يقول الامام الشاطبي: (ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد إنما هو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها الى بعض، فإن مآخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين انما هي على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا حصل للنَّاظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك هو الذى نطقت به حيث استنطقت)([6])
5/ تحريف الأدلة عن مواضعها :
بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط الى أمر آخر، موهم أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه – والعياذ بالله – ومن أمثلة ذلك :
أن يرد الدليل الشرعي في أمر على الجملة فيأتي به المكلف في زمان مخصوص، وكيفيات مخصوصة، ومكان مخصوص من غير أن يدل الدليل على ذلك . ولا يلجأ الى التحريف من أهل الإسلام صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له ، أو جهل يصده عن الحق ، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً. ([7])
6/ بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل – يدَّعون فيها أنَّها المقصود والمراد، لا ما يفهم العربي منها – مستندة عندهم إلي أصل لا يعقل.
وهؤلاء قوم أرادوا إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، وإلقاء ذلك فيما بين المسلمين لينحل الدين في أيديهم، فقالوا كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن،([8]) وعلى هذا النهج كافة الطوائف الباطنية.
7/ الغلو في تعظيم شيوخهم حتى ألحقوهم بما لا يستحقون فالمقتصد منهم من يزعم أنه لا وليّ لله أعظم من فلان، وربما أغلقوا به باب الولاية، والمتوسط يزعم أنه مساوٍ للنبي صلي الله عليه وسلم، إلا أنه لا يأتيه الوحي والغالي يزعم فيه أشنع من هذا. ([9])
والغلو في الأشخاص يتفرع عنه الغلو في الآراء والأفكار النابعة منهم، ثم تتشكل ظواهر الغلو المذهبي ثم إغلاق باب الاجتهاد مطلقاً، وحجر العقول على ما صدر من تلك المذاهب فقط، ولا شك هذا من أخطر ما يواجه المجال التشريعي حيث تكون هنالك فئات تغلو في شيخ أو مذهب أو حزب أو زعيم سياسي فتؤخذ آراؤهم على أنها الحق المحض الذي لا يقبل الرد .
8/ الاحتجاج بالمنامات:-
وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال الى المنامات ، وأقبلوا وأعرضوا بسببها
فيقولون مثلاً رأينا النبي صلي الله عليه وسلم، أو الرجل الصالح فلان فأمرنا بكذا ونهانا عن كذا فيعمل بها ويترك ما جاء في الشريعة.[10]
والأصل أن الرؤى مبشرات ومنذرات لأصحابها، ولكنها لا تفيد حكماً شرعياً بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم وإلا لزم من ذلك ادعاء محو الشريعة ونسخها بذلك وهذا من أبطل الباطل
كما يقول الإمام الشاطبي: (ويلزم –أيضاً – على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو منفى بالإجماع).[11]
([1]) آل عمران الآية 7
([2]) الاعتصام ج2 /13ـ 14
([3]) الاعتصام ص2/23
([4]) الاعتصام ص2/37
([5]) الاعتصام ص2/ 50ـ51
([6]( الاعتصام ص2/ 42
([7]) الاعتصام 2/59
([8]( الاعتصام 2/64ـ 65
([9]( الاعتصام 2/75-76
([10]( الاعتصام 2/78
([11]( الاعتصام 2/81