بقلم الأستاذ الدكتور/ جلال الدين محمد صالح
نشأ التصوف أول ما نشأ في البصرة، فكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه ج ١١ ص ١٦ : “كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد، مما له فيه اجتهاد … وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة، وهي لباس الصوف، ولا هم اوجبوا ذلك، ولا علقوا الأمر به، ولكن أُضيفوا إليه، لكونه ظاهر الحال”.
وقال ابن القيم موضحا معنى التصوف الراشد في كتابه مدارج السالكين ج ٢ ص ٣١٧ : ” التصوف زاوية من زوايا السلوك الحقيقي، وتزكية النفس وتهذيبها، لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى، ومعية من تحب”.
ومشايخ الصوفية الاوائل أثرت عنهم من الأقوال ما يدل على تمسكهم بالكتاب والسنة، واتباع من سلف، ومنهم الجنيد بن محمد، رحمه الله، إمام السالكين، أثر عنه قوله، كما ذكر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، في الاستقامة ج ١ ص ٩٦ – ٩٧: ” الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال ايضا: من لم يحفظ القرآن، ويكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”.
ومع ذلك وقع من بعض رجال الصوفية، وبعض مشايخهم، شطحات ومخالفات، لا تقرها الشريعة، يلزم ردها وإنكارها.
ولابن القيم كلام نفيس في شطحات الصوفية، وهو موقف عدل وفقه راشد، إذ قال في مدارجه ج ٢ ص ٣٩ – ٤٠ :” وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس، أحدهما، حجبته عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فاهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظن بهم مطلقا، وهذا عدوان، وإسراف، فلو كان كل من أخطأ او غلط جملة، ترك جملة، أو أهدرت محاسنه، لفسدت العلوم، والصناعات .
والطائف الثانية حُجبُوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملتهم، عن رؤية عيوب شطحاتهم، ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم، وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون.
وطائفة ثالثة، وهم أهل العدل والانصاف، الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردوا ما يرد “.
ولذا قال في نقده لشيخ الإسلام اسماعيل الهروي في المصدر نفسه :” شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق احب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم فماخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن المحامل، ثم نبين ما فيه”.
وقال فيه أيضا في المصدر نفسه ص ١٩٨ :” ولا توجب هذه الذلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه، وإساءة الظن به، فمحله من العلم، والأمانة، والمعرفة، والتقدم في طريق السلوك، المحل الذي لا يجهل، وكل أحد فماخوذ ومتروك، الا المعصوم، والكامل من عُدَّ خطؤه “.
يا سلام، ما اجمل هذا الفقه، وهذه الوسطية والاعتدال، وما أسوأ تلك المواقف المتشنجة التي تحسب التدين هو التزمت والتشدد، وما أحوجنا إلى مراجعة مواقفنا المتشنجة ومحاكمتها إلى فقه الوسطية والاعتدال.
وهو ما ينبغي أن تؤصل له الرابطة، وتؤسس، في سبيل بناء جيل متوازن في تدينه، يعرف للآخرين حقهم، ولا يسكت عن باطلهم، ولا يجامل او يهادن، وشعاره (الحق احب الينا) .
إن التصوف الراشد هو الذي يقوم على اساس التوحيد، ونبذ الشرك، واتباع السنة، وهجر البدعة، ومثل هذه التصوف هو الذي كان عليه كبار مشايخ الصوفية العارفين.
يقول أمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله – كما جاء في ملحق مصنفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ( هذه المسائل) ص ١٢٤ : ” فنفس محبته أصل عبادته… ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون يوصون كثيرا بمتابعة العلم”.
وهذا التصوف الراشد هو ما عناه أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله حين قال – كما جاء في كتاب الدرر السنية في الاجوبة النجدية، لعبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي ج ١ ص ١٦١ :” ولا ننكر الطريقة الصوفية، وتنزيه الباطل من رزايل المعاصي … مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي، والمنهج القويم المرعي، الا اننا لا نتكلف له تاويلات في كلامه، ولا في أفعاله…”
وهذا التصوف هو ما عناه أيضا مؤسس حركة الاخوان المسلمون، حين وصفها بالجماعة السلفية، والصوفية، في وقت واحد، وهو ممكن الاجتماع، في قلب المؤمن، يجتمع فيه حب السلفية، مع حب التصوف، ويخطئ من يظن أنهما لا يجتمعان، كما ظن اولئك الذين قالوا: لا يجتمع حب عثمان مع حب علي رضي الله عنهما.
ويقول سفيان الثوري كما ذكر عنه الذهبي في سيره ج ٧ ص ٢٧٣ : ” لا يجتمع حب علي وعثمان الا في قلوب نبلاء الرجال”.
جعلني الله وإياكم من نبلاء الرجال، وللجميع الشكر
وإلى حلقة تالية إن شاء الله.