بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله :
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس، ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً. أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ) (1) رواه البخاري ومسلم.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث (هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة : قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده.) ولعل هذا الحديث هو من البيان لما ورد في قوله تعالى (هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ) آل عمران /7.
أقسام الأحكام :
وقد نصت الآية الكريمة على وجود آيات محكمات وهن الواضحات البينات من قضايا الإيمان والحلال والحرام في الأحكام وهناك آيات مشتبهات وبذات الطريقة يرد هذا الحديث النبوي الشريف ولكنه في قضايا الحلال والحرام ويبين طريقة التعامل مع المتشابه وقد ذكر شراح الحديث بأنه قد اشتمل ثلاثة أقسام من الأحكام :
الأول : ما نص الله على تحليله فهو الحلال البين دون اشتباه وكلٌّ يعرفه كالثمر، والبر، واللباس غير المحرم وأشياء ليس لها حصر. ودليله قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} المائدة / 5.
الثاني : ما نص الله على تحريمه دون اشتباه وهو الحرام البين الذي يعرفه الجميع من أهل الإسلام كالقتل والزنا، والسرقة، وشرب الخمر وما أشبه ذلك مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} النساء /23. وقوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}المائدة /96 وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ما جعل الله فيه حدا أو عقوبة أو وعيدا فهو حرام .
وهذان القسمان هما غالبا محل إجماع المسلمين وليس محل خلاف ونزاع لأنه من المحكم وليس من المتشابه وهو جماع الكتاب والسنة ( أم الكتاب ) .
الثالث : المشتبه وهو ما ليس بواضح الحل والحرمة قال ابن دقيق العيد ( وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني) وهذا يظهر في المشروبات والمطعومات والملبوسات وقضايا البيوع مما تدور فيه الأحكام بين الوضوح والاشتباه فمثلا في المشروبات نجد النبيذ هو محل خلاف هل له حكم الخمر فيكون حراما أم ليس له حكم الخمر فيكون حلالا وفي المطعومات فقد حرمت الشريعة كل خبيث وقد يحدث الخلاف حول المطعومات – فيما عدا المتفق عليه من الدم المسفوح والميتة ولحم الخنزير- لقوله تعالى ( قُل لَّاۤ أَجِدُ فِی مَاۤ أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمࣲ یَطۡعَمُهُۥۤ إِلَّاۤ أَن یَكُونَ مَیۡتَةً أَوۡ دَمࣰا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِیرࣲ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغࣲ وَلَا عَادࣲ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ) الأنعام/145 وفي ماهية الطيب والخبيث وما يدخل فيه لقوله تعالى (وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ ) الأعراف/157 لتعلقه بالعرف والمعهود العربي عند نزول القرآن كما هو عند الإمام الشافعي وغيره وكذلك حددت الشريعة بأن البيع حلال والربا حرام ثم بينت الشريعة ونصت على بعض أنوع البيوع المنهي عنها وصور الربا المحرمة ثم يبقى هناك مساحات بين ذلك يختلف حولها أهل العلم بين الجواز والإباحة وبين النهي والحظر والتوقف والتفصيل وكلها تدخل في المشتبهات الواردة في الحديث .
أسباب الاشتباه في الأحكام :
ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث أسباب الاشتباه فقال :
( الاشتباه قد يكون في الدليل أي في الحكم من حيث الثبوت إذا كان حديثا _لأن الحكم فرع الثبوت _، أو الاشتباه في انطباق الدليل على المسألة، أي في محل الحكم بمعنى هل يدل النص على الحكم أم لا ؟ ) هذا من حيث الجملة ولكن عند التفصيل نجد للاشتباه أربعة أسباب هي :
1/ قلة العلم: فقلة العلم توجب الاشتباه، لأن واسع العلم يعرف أشياء لا يعرفها الآخرون.
2/ قلة الفهم: أي ضعف الفهم، وذلك بأن يكون صاحب علمٍ واسعٍ كثير، ولكنه لا يفهم، فهذا تشتبه عليه الأمور.
3/ التقصير في التدبر: بأن لا يتعب نفسه في التدبر والبحث ومعرفة المعاني بحجة عدم لزوم ذلك.
4/ سوء القصد: وهو أعظمها بأن لا يقصد الإنسان إلا نصر قوله فقط بقطع النظر عن كونه صواباً أو خطأً، فمن هذه نيته فإنه يحرم الوصول إلى العلم، نسأل الله العافية، لأنه يقصد من العلم اتباع الهوى.) انتهى كلامه بتصرف .
وعوامل الاشتباه في دلالة النص على المسألة كثيرة فهناك العام قبل التخصيص والمجمل قبل البيان والمطلق قبل التقييد ومسألة الناسخ والمنسوخ هذا من حيث الدليل وأما إذا كان مبنى الأمر على التعليل فيزداد الأمر اشتباها وغموضا لأن معرفة العلل والحكم والمناسبات لا يعلمها كثير من الناس ولكن يعلمها أهل العلم منهم لأن الحديث لم ينف العلم بها مطلقا ولكن نفي العلم بها عن كثير من الناس .
حكم مسائل الاشتباه :
حكم المسائل المشتبه بها بين الحلال والحرام يختلف بحسب العلم وعدمه فمن كانت له القدرة العلمية للبحث والتحري والوصول لليقين المؤدي للعمل فهذا واجبه التحري والعمل بما علم وأما غير العالم فيجب عليه مراجعة أهل العلم والتزام فتواهم لأن هذا هو الواجب في حقه ( فاسألو أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )النحل /43 أو توقي الشبهات وتركها لما دل عليه الحديث ( فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ ).
وقد بين الشيخ عطية سالم رحمه الله في شرحه للحديث حكم الشبهات فقال :
(وما دام أنك لست من القليل الذين يعلمون حكم هذا المشتبه، فعليك الكف والترك، لحديث: (البر ما اطمأنت إليه النفس) ، حينما تجد الصدر مشغولاً وفيه زوابع، وفيه أمواج تتلاطم، وفيه انفعالات وترددات: تقدم أو تحجم يجوز أو لا يجوز؟ عرفت عندها أن النفس لم تطمئن؛ لأن الطمأنينة الاستقرار، أما حركة التردد، وحركة القلق، وحركة الاضطراب، وحركة الانفعال بين حلال وحرام، فهذه علامات الشبهة، إذا وجد هذا الاضطراب ارتفعت تلك الطمأنينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)
الفوائد المستفادة من الحديث :
1 – الحث على فعل الحلال وترك الحرام والتوقي من الشبهات التي يقوم الدليل أو التعليل على كشف الالتباس والاشتباه عنها وما عدا ذلك ربما كان وسواسا وتعمقا وتكلفا نهت الشريعة عن مثله .
2 – إن للشبهات حكما خاصا بها،عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس وإن خفي على الكثير منهم.
3 – المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة.
4 – أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، ويعتبر هذا الحديث من أصول الجرح والتعديل لما ذكر.
5 – سد الذرائع إلى المحرمات، وأدلة ذلك في الشريعة كثيرة أي أن كل ذريعة توصل إلى محرم فهي محرمة وكما قيل للوسائل أحكام المقاصد وسد الذرائع دليل شرعي، فقد جاءت به الشريعة، ومن ذلك قول الله تعالى ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الأنعام/108)
6 – ضرب الأمثال للمعاني الشرعية العملية.
7 – التنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على إصلاحه، فإنه أمير البدن بصلاحه يصلح، وبفساده يفسد.
و إن لطيب الكسب أثرا في إصلاح القلوب .
8/ وفي وجود المشتبهات في الأحكام حكمة بالغة وهي معرفة المتقين وأهل التورع والتدقيق العلمي من غيرهم وهو من مقامات الإحسان.
9/ ليس في الشريعة ما يجهله كل الناس ولكن فيها ما يجهله البعض ويعرفه آخرون
(لا يعلمهن كثير من الناس)
10/ حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بضرب الأمثال المحسوسة لتتبين بها المعاني المعقولة، وهذا هو طريقة القرآن الكريم، قال الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 43)