الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله الأمين :
من المفاهيم الأساسية الكبرى في القرآن الكريم مفهوم الحق ويكاد يكون هو المفهوم المركزي الذي تدور حوله بقية المفاهيم فالقرآن الكريم كتاب الحق المنافي للباطل ويتمثل الحق في الإخبار والإنباء عن عالم الغيب والشهادة وهي كلها حق وصدق لا ريب فيها قال تعالى
(فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ ) البقرة/26 ( وهو الحق مصدقا لما معهم ) البقرة/91 (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ) البقرة/119 (ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ) البقرة /147 (وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَـٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا مُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا ) الإسراء/105
( تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَیۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ) البقرة/252
والتحدي الحقيقي والإعجاز المستمر هو بالحقائق المنزلة في القرآن الكريم من الله تعالى (الحق ) جل جلاله قال تعالى (ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا یَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَـٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ ) لقمان/30 فكما أن القرآن معجز في بيانه وبلاغته وألفاظه فهو معجز في مضمونه ومعانيه القائمة على الحق الذي يتكشف عبر الزمان دون انقطاع حتى قيام الساعة ولجميع الناس عربهم وعجمهم قال تعالى (سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ) فصلت/53
ولفظ (الحق) ورد في القرآن الكريم في مواضع عديدة جاء في أكثرها بصيغة الاسم، نحو قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق} (البقرة:119). وجاء في الأقل بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: {وحق عليهم القول} (فصلت:25).
وتفهم الدلالات في كل موضع من خلال السياق والسوابق واللواحق
ومن خلال تتبع مفردة الحق في الكتاب العزيز نجدها تدل على معاني عظيمة ذات ثبات وقوة ومنها ما يلي ( الله/ القرآن/ التوحيد / الإسلام/ العدل / الصدق/ نقيض الباطل/ الأحقية والأولوية/ وجوب العذاب/ الدين في الذمة /الحظ والنصيب / الحاجة /البيان /الإنجاز والـتأكيد) ويتضح من خلال المعاني السابقة مركزية مفهوم الحق في القرآن الكريم وأهميته .
والجامع لكل تلك المعاني القرآنية وخلاصتها:
أن الله هو الحق وقوله وكلامه الحق وكلماته في الوجود وهي خلقه هي الحق وبالتالي دلالات الآيات القرآنية كلها تربط الخلق بالحق وقد تبين مما تقدم أن الحق نقيض الباطل لأن الباطل أوهام وزيف في التصورات ولا علاقة له بالوجود الموضوعي خلافا للحق الذي له وجود موضوعي خارجي لا يتأثر بموقف الناس منه قبولا أو رفضا .
وبما أن الحق وجوده موضوعي فإنه لا يتأثر بالمواقف الذاتية والاعتبارات الشخصية والنفسية الرافضة والمنكرة لوجوده فسيبقى الحق موجودا وثابتا وراسخا مهما تنكر له الناس أو رفضوه وجحدوه لأنه كما قيل :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد / وينكر الفم طعم الماء من سقم
ومناقضة الحق غالبا ما تكون بالتلبيس والكتمان (مع العلم به ) وذلك لقوته وظهوره وتأثيره قال تعالى( وَلَا تَلۡبِسُوا۟ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتَكۡتُمُوا۟ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ) البقرة /42
وهذا نهج المغضوب عليهم من اليهود ومن ولاهم وسار على دربهم وعمل على تلبيس الحق بالباطل وكتم الحق رغم علمه به.
والحقائق: إما (غيبية ) مثل – الجنة والنار والملائكة والجن وكبرى الحقائق الغيبية هو الله جل جلاله-
(ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ) أو( كونية طبيعية) – مثل السموات والأرض وما فيهما من شمس وقمر وكواكب ومجرات – ( وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ) أو ( إنسانية ) – حيث الوجود الإنساني حقيقة في عالم الشهادة بالنسبة للأحياء وغيب في عوالم التاريخ – وهنا يكون الإخبار عنه إنباءً وإخبارا من خلال سرد القصص القرآنية (إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ) آل عمران/62 ومن ينكر أي نوع من أنوع الحق فهو كافر وجاحد ومكذب شرعا .
والقيم الدينية والأحكام الشرعية تؤسس على الحق والعدل وتتوافق مع الفطرة الإنسانية ومن هنا تكتسب مشروعيتها وقوتها ويضبط الحق كل القيم الأخرى فلا تخرج عليه ولا تسبقه وتتقدم عليه خلافا للمنظور الغربي الذي جعل من قيمة الحرية القيمة الأولى والعليا والمهينة على منظومة القيم وهنا يبدو الفارق كبيرا بين الإسلام وتراتب منظومته القيمية وبين الغرب بليبراليته المتحررة من قيود الحق وتشريعات العدل الإلهي .
وتكون معرفة الحق بالبينات النقلية والعقلية والحسية بعيدا عن تزيين النفس وتقلبات الهوى قال تعالى (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّهِۦ كَمَن زُیِّنَ لَهُۥ سُوۤءُ عَمَلِهِۦ وَٱتَّبَعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَهُم )محمد/14
(أفَمَن زُیِّنَ لَهُۥ سُوۤءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنࣰاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَیۡهِمۡ حَسَرَ ٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا یَصۡنَعُونَ) فاطر/8 أو دعاوى الأكثرية وتبعية الآباء والتوارث (وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَاۤ أَلۡفَیۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ) البقرة/170
(لَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ ) الأعراف/17
صفات الحق :
ومن أهم ما يتصف به بالحق ما يلي :
– التطابق بين الاعتقاد والواقع فكل اعتقاد لا وجود له في الواقع فهو وهم من الأوهام والأباطيل وهذا في مجال التصورات والأفكار والعقائد وهذا النوع بطبيعته لا يحمل صفة اليقينية بل صفة الظنون والشكوك قال تعالى (وَإِذَا قِیلَ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَیۡبَ فِیهَا قُلۡتُم مَّا نَدۡرِی مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنࣰّا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَیۡقِنِینَ ) الجاثية/32
– الصدق وهو مطابقة الخبر للحقيقة الخارجية وهي صفة هامة في الحق لأن الكذب حقيقته غياب المطابقة بين الخبر والمخبر عنه وهذا باطل لا علاقة له بالحق قال تعالى (وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَیَوۡمَ یَقُولُ كُن فَیَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ یَوۡمَ یُنفَخُ فِی ٱلصُّورِۚ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ)الأنعام /73 ( قوله الحق ) أي الصدق المطابق للواقع فالحق يتصف بالصدق والصحة المنافية للخطأ والكذب والباطل والفساد .
– الثبات وعدم التغير: ومن صفات الحق الأساسية الثبات وعدم التغير والزوال وذلك لأن الحق قد تحقق كونه ووجوده وكل شيء صح وجوده وكونه فهو حق ولهذا فمن أسماء الله الحسنى ( الحق ) وهو بخلاف الباطل المتحول والمتغير والزائل قال تعالى (فَذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَـٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ ) يونس/32
وخلاصة القول فإن الحق مفهوم مركزي في القرآن الكريم تدور حوله كافة المفاهيم وتتفرع عنه كافة القيم وقد أمرنا شرعا بالتواصي به والصبر عليه وهذا معقد الفلاح والنجاة من الخسران الأبدي قال تعالى (وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ) العصر/3
والحمد لله رب العالمين.