الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
قال تعالى: (كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ فِیمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِیهِ إِلَّا ٱلَّذِینَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمٍ) [البقرة 213].
بداية الظاهرة الدينية كانت مع بداية البشرية وهبوطها إلى الأرض لتحقيق الاستخلاف في الأرض وفق هدايات السماء المنقولة إلي الناس من خلال الرسل والأنبياء رفعا للخلاف المؤدي للبغي والعدوان وتحقيقا للوفاق على منهج الحق المزيل للباطل والوهم ببينات الرسالة المصدقة للرسل فيما جاؤوا به عن الله تعالى وكلما طال العهد بالناس وغابت أحكام الرسالة واندرست معالمها تبدت في ثوب جديد حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والرسالات وهذا التجديد الديني مستمر حتى بعد آخر رسالة سماوية وهي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه (إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يُجدِّدُ لها دينَها) أخرجه أبو داود وصححه الألباني وحالات التجديد الديني مسبوقة دوما بظهور الغربة الدينية لكل رسالة سابقة بسبب التبديل والتحريف والجهل والهوى وقد كان الحال قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يعبر عن غربة كاملة في العقائد والتصورات والأحكام التشريعية لأن الناس كانوا يعيشون في جاهلية كاملة فارقوا فيها الرسالات وجوهر دعوتها القائمة على التوحيد والأخلاق والقيم الفاضلة
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل جلاله: (وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا، وإنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلى أَهْلِ الأرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلَّا بَقَايَا مِن أَهْلِ الكِتَابِ، وَقالَ: إنَّما بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ …..) أخرجه مسلم
وكانت هذه غربة الإسلام الأولى التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء) أخرجه مسلم
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا في كشف وتجلية هذه الغربة ومحوها بالبلاغ والبيان والقيام لله تعالى أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر دون ملل أو كلل يواصل الليل بالنهار حتى تزول غربة الإسلام ويعود بالعرب وعامة الناس إلى الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
وقد ارتبطت غربة الإسلام الأولى بقلة الناصر مع كثرة المهددات والمخاطر لذا كانت منهجية الدعوة في سنواتها الأولى قائمة على السرية والانتقاء في الأفراد وهو منهج يلائم كافة المستضعفين في الأرض خوفا من الاستئصال وقد استطاع النبي عليه الصلاة والسلام كسب العديد من الشخصيات المؤثرة بعيدا الملاحقة والمطاردة في هذه الفترة.
وبعد سنوات من الدعوة السرية جاء الأمر الرباني بالجهر بالدعوة قال تعالى (فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ) [الحجر 94] فكانت الهجمات الشرسة على الثلة المؤمنة ملاحقة وتعذيبا وتنكيلا والقرآن الكريم يحثهم على الثبات والعزيمة والصبر لأن زوال الغربة الدينية مرهون بذلك وقد كانوا أهلا لذلك وضربوا أفضل النماذج في التضحية للدين مما هو مسجل في تاريخهم وسيرهم
وتلاحق الأذى بالمسلمين وضاقت بهم مكة بكل رحابتها لأن غربة الدين كانت في ذروتها ولم يكن أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يأذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة طلبا للأمن والأمان في ظل (ملك لا يظلم عنده أحد) وحالهم كما حدثت عنه أم سلمة رضي الله عنها: (ونحن عنده بخير دار عند خير جار) ولكنهم جمعوا مع غربة الدين غربة الديار والأهل فعاشوا غربتين في ديار الحبشة رغم عدالة النجاشي وحمايته لهم.
ومع العمل المستمر والجهاد الدؤوب الذي لم يتوقف والبحث عن السبل التي يكون بها الخروج من غربة الإسلام الأولى كانت تلوح في الأفق بدايات فجر جديد للإسلام يكون معه التمكين للدين وأهله والخروج من حالة الاستضعاف والغربة وذلك في (يثرب) حيث وجود النصرة والحماية وتحمل تبعات الرسالة الخاتمة والفوز بهذا الشرف العظيم فكان الانتقال والهجرة للمدينة حيث بدايات الدولة وتأسيس المجتمع القائم على مفهوم الأمة ومعها تحقق الخروج من حالة الغربة الأولى للإسلام وأهله.
ومع الهجرة للمدينة والإذن للمسلمين بالجهاد قويت شوكة الإسلام وتراجعت قوة المشركين وضعف نفوذ قريش وبدأت معالم زوال الغربة الدينية بالكلية بظهور الدين وقيام دولته وانتشاره بين الناس ومع ذلك يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بعودة غربة الإسلام كما كانت في البدايات كما تقدم في الحديث: (بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ كما بدأ، فطوبى للغُرَباءِ)
وخلال قرون خلت كان للإسلام دولة وكيان يحكم مساحات واسعة من المعمورة ويتصدر الحضارة العالمية في كافة المجالات ثم ها هي الأمة المسلمة تعيش غربة في هويتها ودينها وشريعتها ويتم ملاحقة دعاة الإصلاح ورواد الإحياء الديني ويتواطأ الحكام مع الأعداء ويفرضون على الأمة أنظمة وقوانين ومناهج تعليمية لتتحقق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بغربة الإسلام بين أهله ودياره وهذه الغربة الحاصلة للإسلام وأهله في زماننا لا يمكن دفعها إلا بذات المنهج الذي زالت به الغربة الأولى وذلك بالثبات على الدين بعد فهمه وتعلمه ثم نشره ودعوة الناس إليه وأول من يجب عودتهم للدين هم أهل الإسلام الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه.
ومن أغرب ما نشاهده من غربة الإسلام بين أهله ودياره هو محاولات صناعة إسلام يرضى عنه الغرب ولا يتصادم مع الحضارة الغربية الغالبة وقيمها وينسجم مع التطبيع ومقتضياته من القبول بالمحتل وعدم مقاومته ليصلوا بنا أخيرا وبالتوافق مع الحكومات لما يعرف بالديانة الإبراهيمية التي تسعى للتوفيق بين الحق الإسلامي الخالد والباطل المحض من الديانات المحرفة والمبدلة.
ومن الغربة السائدة في زماننا انتشار موجة الإلحاد والفواحش وتفكيك الأسرة وكل ذلك يتم تحت الحماية الدولية تقنينا وفرضا بكافة الأدوات لينتهي الأمر إلى منطق الحضارة الواحدة القائمة على الكفر والفواحش والفردانية ويتلاشى مفهوم التعددية الفكرية والدينية والثقافية الذي ظل الغرب يروج له عقودا من الزمان بينما الحقيقة هي سيادة منظومة غربية شمولية لا تعترف بالآخر مطلقا بل تنطلق من مركزية الحضارة والإنسان الغربي.
وإن مواجهة الجاهلية المعاصرة وقيمها يتطلب تضافر كافة الجهود الدعوية والعلمية والخيرية والسعي الجاد والعمل الدؤوب لصد هذه الموجات الضالة والمنحرفة عن المنهاج المستقيم وتجنب المعارك الجانبية التي يوظفها العدو ويستفيد منها في اختراق الأمة وتفتيت قوتها ووحدتها وهذا يتطلب وعيا كاملا للمخاطر والتحديات كما يتطلب تصدر العلماء وأهل الفكر الرصين لمقدمة الصفوف فلا خير في عالم أو مثقف ومفكر لا يهتم بقضايا أمته ومشكلاتها.
وصدق من قال (إن هذا الدين لا يتحقق في الواقع العام إلا على يد نبي أو وراث نبي) والأنبياء إنما جاؤوا بالعلم النافع (الحق) والعمل الصالح (الخير) وبهما يكون التمكين في الأرض وزال غربة الدين وأهله. والحمد لله رب العالمين.