الإيمان وأثره في النفس البشرية

19 ديسمبر 2021 1328

بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله الأمين أما بعد:
القرآن الكريم من أعظم مقاصده بل المقصد الأسمى فيه هو التعريف بالخالق جل جلاله وعظمته وجلاله بشتى السبل والآيات الدالة على ذلك في النفس والآفاق ثم التوجه لعبادته قصدا وإرادة ودعاءً ومحبة والعمل بشريعته انقيادا  وطاعة واهتداء وهذا أصل الأصول في الإيمان وأركانه لأنه يتعلق بتوحيد الله تعالى قال تعالى: (فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ ) محمد /19.

ومن خلال التتبع للقرآن الكريم فإن الحديث عن ذلك يدور حول وجود الله تعالى وأنه الخالق والرب والإله  وما يجب له من  الأسماء الحسنى والصفات العلا اثباتا لكل كمال ونفيا وتنزيها عن كل نقص قال تعالى( وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُوا۟ ٱلَّذِینَ یُلۡحِدُونَ فِیۤ أَسۡمَـٰۤىِٕهِۦۚ سَیُجۡزَوۡنَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ ) الأعراف/180.

 والذات الإلهية لها أسماء وصفات تنتج عنها أفعال تتجلى وتتمظهر في الوجود كله فما الوجود إلا تجليات أسماء الله الحسنى وصفاته العلا وهذه الأسماء يتم التعبد والدعاء بها  وهذه الأسماء تعرف بالشرع فمنها ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مسكوت عنه كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم( ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حَزَنٌ فقال اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمَتِك ناصيَتي بيدِك ماضٍ فيَّ حُكمُك عَدْلٌ فيَّ قضاؤُك أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك أوْ علَّمْتَه أحدًا مِنْ خلقِك أو أنزلته في كتابِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حُزني وذهابَ هَمِّي إلا أذهب اللهُ همَّه وحُزْنَه وأبدله مكانه فَرَجًا قال: فقيل: يا رسولَ اللهِ ألا نتعلمُها فقال: بلى ينبغي لِمَنْ سمِعها أنْ يتعلمَها) رواه الإمام أحمد في مسنده.

والمنصوص من الأسماء مثل (الله الرحمن الرحيم الملك إلخ ) وقد وردت في العديد من السور والآيات بل لا تكاد سورة من سور القرآن الكريم تخلو من ذلك  وورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( اللهم اسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك)  فهذا منصوص عليه بالنقل الوارد في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم  وهناك ما هو مخصوص ببعض خلقه وليس عاما كما ذكر في الحديث أعلاه( أو علمته أحدا من خلقك) وهناك من الأسماء ما أخفاه الله أو استأثر به في علم الغيب عنده  فهو ( مسكوت عنه) كما جاء في الحديث ( أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك )  وقد أشارت النصوص على أن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة أي علمها واعتقدها وعمل بمقتضاها.

كما أن لله تعالى صفات جمال وكمال وجلال وهي أوسع من الاسماء وذلك أن كل اسم يمكن أن يؤخذ منه صفة ولكن ليست كل الصفات تؤخذ منها أسماء.

وكل من الاسماء والصفات محكومة بقواعد معينة وهو أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا اسمائه ولا صفاته قال تعالى: (لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ) الشورى/11.

والعبد مكلف بمعرفة ربه والعلم به من خلال آياته الشرعية وهي الوحي المنزل في كتابه العزيز وكذلك من خلال آياته الكونية المبثوثة في الخلق وآياته كلها دالة عليه :

وفي كل شيء له أية // تدل على أنه الواحد.

فمن عرف الله وآمن به أنتج له ذلك آثارا وثمارا في نفسه وعقله وعمله .

ثمرات الإيمان بالله وآثاره:
1/ المحبة:
فمن عرف الله بكماله وجلاله وعظمته قدره حق قدره وأحبه وأحب لقاءه وآمن بكلامه وشرعه وأنس بالخلوة مع دعائه ورغب فيما عنده ويبلغ به الأمر أن يكون الله أحب من كل المحبوبات قال تعالى: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادࣰا یُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَشَدُّ حُبࣰّا لِّلَّهِۗ ) البقرة/165.

وتزداد محبة الله بمعرفة نعمه فالإنسان مجبول على حب من أنعم عليه فكيف بمن عرف بأن نعم الله عليه بلا حدود ولا إحصاء ولا عدد قال تعالى:( وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ) النحل/ 18

ومحبة الله تعالى تتجلى في متابعة شرعه واتباع رسله قال تعالى: (قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ) آل عمران/ 31.

وتتناقض دعوى محبة الله تعالى مع عصيانه والخروج على شرعه ودينه.

 وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله:

تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ

هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ

لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ

إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ

في كُلِّ يَومٍ يَبتَديكَ بِنِعمَةٍ

مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضيعُ

2/ الشوق الى لقاء الله:
والعلم بالله ومعرفته توجب الحب والشوق الى لقائه وكل نفس تواقة الى لقاء من تعلقت به وأحبته ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه (اسألك الشوق الى لقائك) رواه النسائي وصححه الألباني.

 ويقول العلامة ابن القيم ( فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير الى محبوبه ويقرب عليه الطرق ويطوي له البعيد ويهون عليه الآلام والمشاق وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ) زاد المعاد.

3/ الخشية من الله:
المعرفة والعلم تحمل صاحبها على الخوف والخشية والتقوى والتوكل والرجاء والمهابة قال تعالى: (إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ) فاطر/ 28

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( والله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية ) رواه  البخاري

وخشية الله تعالى توجب مراقبته في السر والعلن قال ابن القيم رحمه الله: (المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين) مدارج السالكين.

4/ الرضا:
ومن ثمرات وآثار معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا _ وكونه رحيما  عليما قادرا عدلا حكيما حليما  لطيفا جبارا قاهرا  _ الرضا بقضاء الله وقدره وعدم الاعتراض والقلق واليأس مما قضاه وقدره بل يصل العبد بالرضا والتسليم لما قدره الله وقضاه اليقين  بأن اختيار الله للعبد خير من اختياره لنفسه ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (أسألك الرضا بعد القضاء) رواه النسائي

يقول ابن القيم “إن الرضا يُثمِّر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا، وبرد القناعة واغتباط العبد بقسمه من ربِّه، وفرحه بقيام مولاه عليه واستسلامه لمولاه في كل شيء ورضاه منه بما يجريه عليه وتسليمه له الأحكام والقضايا، واعتقاد حسن تدبيره وكمال حكمته، ويذهب عنه شكوى ربِّه إلى غيره وتبرمه بأقضيته .. ” [مدارج السالكين (2،220)]

وقال ابن عطاء الله السكندري : ( ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك ) يقول ابن عجيبة في إيقاظ الهمم ( قلت الغالب على النفس الأمارة واللوامة أن تنبسط بالعطاء وتنقبض بالمنع لأن في العطاء متعتها وشهوتها فلا جرم أنها تنبسط بذلك وفي المنع قطع موادها وترك حظوظها ولا شك أنها تنقبض بذلك وذلك لجهلها بربها وعدم فهمها , فلو فهمت عن الله لعلمت أن المنع عين العطاء والعطاء عين المنع ).

5/ الرجاء والدعاء :
المعرفة  والعلم بالله تعالى توجب الرجاء فيما عند الله من واسع فضله ورحمته وعظيم وواسع خزائنه وتحمل صاحبها على الدعاء والسؤال والالحاح على الله وهذا حقيقة التعبد قال تعالى( وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِی سَیَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ) غافر/60.

وقال تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لِی وَلۡیُؤۡمِنُوا۟ بِی لَعَلَّهُمۡ یَرۡشُدُونَ) البقرة/186.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ) صحيح الجامع للألباني.

والمجبة والخوف والرجاء عليها مدار التعبد لله تعالى قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – (القلب في سَيرِهِ إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان؛ فالطير جيد الطيران. ومتى قطع الرأس؛ مات الطائر؛ ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر) مدارج السالكين.

6/ المسؤولية:
عندما يكون الإنسان منطلقا من الإيمان بالله ورسوله وآياته وشرعه وأحكامه والإيمان بالآخرة والجزاء والحساب فإن ذلك ينتج أثرا وثمرة في النفس البشرية وهي روح المسؤولية وأن الحياة الدنيا لها غاية تنتهي إليها وليست عبثا ومن هنا تكون أعماله وتصرفاته كلها متجهة إلى المقصد الأسمى للرسالات وهو عبادة الله والعمران والاستخلاف الإنساني في الأرض بما أمر الله تعالى ويخرج عن دائرة الهوى والعدمية والضياع.

والمسؤولية هي تحمل الإنسان لجميع النتائج المترتبة على القرارات التي يقوم باتخاذها في كل مجالات الحياة المختلفة من الناحية السلبية و الايجابية سواء كانت في الدنيا أو الآخرة.

قال تعالى: (أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثࣰا وَأَنَّكُمۡ إِلَیۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ) المؤمنون/ 115.

هذه بعض الآثار والثمرات المترتبة على الإيمان بالله والعلم به ومعرفته جل جلاله وهناك الكثير مما لم يتم ذكره ولكن كفى من القلادة ما أحاط بالعنق.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *