بقلم الشيخ/ محمد خير عمر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
الله سبحانه وتعالى سمى الإنسان خليفة قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة 30]
وفخامة الاسم يدل على فخامة الدور الوظيفي (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون) [الذاريات 56]
وفخامة الوظيفة تدل على فخامة القيمة المضافة للإنسان (ثم أنشأناه خلقا آخر) [المؤمنون 14]
والخلق الآخر إشارة إلى القيمة المضافة للإنسان وهي قفزة العقل وما تم منحه له من أجهزة السيادة (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) التين /4 فالله منح الانسان خصائص لم تمنح لأحد من المخلوقات:
كالامتياز الخَلْقِي (بفتح الخاء وسكون اللام) والامتياز الوظيفي أي السيادة على الكون.
والخليفة تعني أنه كائن متفرد لا يشبه غيره، مُبْدِع مُبْتَكر مُكَرَّمٌ لدرجة أن تؤمر الملائكة بالسجود له
وحتى يقال لواحد من المُسْتَخلفين (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) ص 39
زوده الله بتلك الأجهزة السيادية ليكون قادرًا على توجيه دَفَّة الحياة وفق توصيفه الوظيفي (بسم الله) كُلُّ شيء لله
* فمن الأجهزة السيادية: العقل، وهو مناط التكليف وحَيِّزُ الإيمان
* ومن أجهزة السيادة: الفطرة، وهي أُس كل خير
* ومن أجهزة السيادة: الحرية كمنحة إلهية لا يملك أحد الرجوع فيها، ويبنى عليها كل شيء من العبادة كالشعائر إلى الخلافة كنظام حكم، والإنسان يملك من الحياة بقدر ما يملك من الحرية.
* ومن أجهزة السيادة: الشهوة، فهي أساس التكاثر لهذا المُستخلف في الأرض، يمكن أن يسمو بها الإنسان عندما يضرب عليها سِياج الشرع ويوجهها بالأخلاق.
* ومن أجهزة السيادة: العواطف والمشاعر والأحاسيس ولا يكون الإنسان من غيرها إنسانًا
* ومن أجهزة السيادة: الشرع لينظم حركة الحياة وفق مفهوم الاستخلاف عبادة وتعميرًا
* ومن أجهزة السيادة: الوقت، وهو عامل الحسم في كل إنجاز
وكالسيف إن لَايَنْتَهُ لان مَتْنَهُ * وَحَدَّاهُ إنْ خَاشَنْتُه خَشِنانِ
والوقت في الدول المتقدمة وعاء تنافسي، وعند الدول المتخلفة عبئٌ ينبغي التخلص منه؛ فالقرون المفضلة من الملاحظات التي منحتها الخيرية، هو أن القرن الأول من ضمن عوامل خيريته – إضافة لما ذكره العلماء -: أنهم استثمروا الوقت فيه بنسبة مئة بالمئة؛ فرسان بالنهار رهبان بالليل، وكان في المئة سنة الأولى من الهجرة يفتحون ما نسبته في اليوم الواحد خمسة عشرة كيلو متر.
وأجهزة السيادة هي أدوات حركية مرنة متفاعلة، وما دام الأمر كذلك ينبغي عليه ألا يكون حبيس جدران المألوف الذي يضرب على الانسان سياج من العجز، وذلك بقولبته في قالب حزبي أو طائفي أو قبلي أو وطني، لتتم بروزته وتعليقه في جدار الحزب أو الجماعة، ويكون ساكنا مطاوِعا لينًا هينا، يَرَى ليس بالإمكان أفضل مما كان، فإن الانحصار يجعل منه مثل بركة الماء الآسن، وربما ينحدر به إلى خانة عقلية الشاعر الجاهلي:
وما أنا إلا من غزية إن غَوَتْ * غَوَيْتُ، وإن تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أرشد
لا يرى أبعد من قبيلته، محكوم بها مُعاق قَعِيد على كرسي القبيلة، وهذا إلغاء للقيمة المضافة للإنسان، ومن ثم القبول بدرجة الإمعة التي تسقطه من رتبة الإنسانية إلى رتبة القطيع.
صحيح أن أي فكرة خارج المألوف – سواء كان حزبا أو جماعة أو قبيلة أو عادة مستحكمة – حتما تُحارَب وقد تُسْتَهْجَن ويتم تجاهلها وصاحبها، ولذا أنت مطالب باقتحام العقبة وفك رقبتك وعقلك من الجمود والتكلس، و التسري بأفكار خارج المألوف والاجتهاد للخروج من حبسك الاختياري، فقولبة الانسان في قالب معين يدمر مواهبه ويسجنه في إطار محدود يعطل ممكناته ويقمع مقدراته، وينتج عنه إنسان بلا طموح مستأنسٌ دومًا يخاف من كل جديد، فيصبح مخلوقا من غير غد.
وأي تقدير يجعل منك مجرد عصفور في قفص هو معاكس لفطرتك ولطبيعتك الخلاقة وروحك الوثابة ووظيفتك السيادية وتشوفك للمستقبل.
السفن آمنة وهي مربوطة في المرسى ولكنها لم تصنع لذلك.
حتى لا تنطفئ في شرنقة المألوف أيا كان، وربما تقول يوما (ما): (لولا الحزب أو الجماعة لكنت اليوم شيئا مذكورا)
الإنسان الأوروبي رغم أنه هو من أنتج الدولة القومية العقارية، إلا أنه ضاق بها ذرعا، وأنه أعظم وأكبر مِنْ حَبْسِهِ في هذه الدولة أو تلك فكانت فكرة الاتحاد الأوروبي، مواطَنَةً عابِرَة، فانتماؤنا الحزبي ينبغي ألا يكون عائقا لنا من التحليق في الفضاء الإسلامي والإنساني والسياحة في أروقة الفكر.
تجد في كرة القدم أن لاعبا ما يكون مدربه أسند إليه مهام معينة وأطَّره في هذا الدور، ولكن يأتي مدرب آخر يكتشف قدرات هائلة في نفس اللاعب الذي كان يبدو محدود الإمكانات والقدرات فيصنع منه نجما عابر القارات، ودروغبا اللاعب الإيفواري كان مدافعا عاديا يلعب في الدوري الفرنسي، انتقل إلى تشيلسي الإنجليزي تحت قيادة المدرب مورينهو فنقله إلى خانة أخرى ووظيفة مغايرة فتحول إلى نجم فوق العادة، كذلك الإنسان بحاجة إلى اكتشاف نفسه بالتفكير خارج الصندوق وخارج المألوف، وهذه ليست دعوة ضد الانتماء الحزبي، ولكنها في الحقيقة دعوة للنماء بالحزب، وكذلك للتقليل من آثار الانتماء السلبي الانكفائي والذي كان سببا من أسباب الحرب الأهلية بين التنظيمات في الساحة الارترية، وكان لتضخيم “إلا أنا” التي تدور في ساقية الحزب بسبب الانغلاق على الذات نتج عوار فكري سلوكي (يا أنا يا أنت) وعبر عنه بالقول (إن الوطن لا يتسع لأكثر من تنظيم) والحقيقة أنه يتسع، ولكن صدور الرجال تضيق (أنا وأنت) ممكن.
خاتمة:
أخرج رأسك من نافذة الواقع ترى الحقيقة في كامل زينتها، فالأسد لا يُهاب إلا وهو حر طليق، أما في الحديقة خلف الأسوار فالكل يقف أمامه بثبات.