بقلم الدكتور/ عثمان محمود دين
المقدمة: مما هو متعارف عليه في العصر الحديث إبراز الشخص هويته الورقية عند وصوله لمكان ما لِيَعرف الآخرون من هو، وكان في السابق يُعرِّف الإنسان نفسه بالنطق الملفوظ، وبالكلام المحفوظ، وبالرداء الملبوس، وكثيرا ما نقرأ ذلك في كتب التأريخ، ومع تعاقب الحلول المدنية وصلت إلى إبراز الشخص بطاقة شخصية تعرف عن ذاته الشخصية، ومعلوماته الأولية. وبذلك تبرز هويته الوطنية والدينية والمكانية. هذا التعريف جزأ بسيط فيما يخص الهوية الاجتماعية، إلا أن الهوية في مصطلح أهل العلم تشمل الجانب الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، وجميع ما يتعلق بحضارة الإنسان. إذاً فما هي الهوية.؟
تعريف الهوية: ذكر الكفوي في الكليات أن: “لفظ الهوية فيما بينهم يطلق على معان ثلاثة: التَّشخُّصُ والشخص نفسه والوجود الخارجي.”
وقال بعضهم: الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب (ما هو) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث حمل اللوازم عليه يسمى ذاتا.
الكليات (ص: 961)
وقيل إن الهوية عبارة عن ذات الإنسان وحقيقته، وما يميز به عن غيره، وهو الإحساس بالتميز عن الآخرين، وتشخيص ظاهر لباطن ودليل شاهد على غائب.
ومصطلح الهوية الإسلامية هي تلك السمات والخصائص والسلوكيات المميزة للأمة الإسلامية الناتجة عن تفاعل المسلم مع العقيدة والشريعة، وهي التراث المادي والمعنوي يدل على الوحدة والتفرد والتميز والثبات.
يقول الفارابي في (الحروف)في تعريفه للهوية: ” هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له، كلٌّ واحدٌ، وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه على اشتراك.”
وقال ابن حزم “وحدُّ الهوية هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر.” (ابن حزم، الفصل في الملل والنحل، ص: 107)
ملابسات مصطلح الهوية: هناك عدة كلمات وألفاظ تتداخل في مصطلح الهوية لا تؤثر في مجملها على المعنى العام، ويمكن إيرادها هنا لتحرير الملابسات لدى من يريد أن يتعمق في فهم المصطلح وهي:
أولاً: (الهُوية) بضم الهاء، أم (الهَوية) بفتح الهاء.؟
(الهُوية) بضم الهاء تُطلق على ماهية الشيء وتَشَخُّصِه، أصلها كلمة (هُوَ) ضمير لمفرد مذكر مؤنثه (هِي)، عرفها الجرجاني بقوله: « الهُوية: الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق.»
(الهَوية) بفتح الهاء تطلق على الحب، يقال امرأة هَوية: أي تهوى وتحب. أصلها (هَوِيَ) بمعنى أحب. والهوى هو: إتباع رغبات النفس وشهواتها. قال الجرجاني: ” الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع.” (الجرجاني، التعريفات، 1403هـ، ص:257)
الهُوية بضم الهاء: سمات وأفعال تعبر عن الشخص، وهي نابعة عن نفسه ومن داخله تدل على الوجود الداخلي، والهَوية بفتح الهاء: سمات وأفعال تعبر عن الشخص لكنها تمثل الآخرين لتقمص الفرد شخصياتهم وتقليدهم لتأثره بالوجود الخارجي.
ثانياً: الهوية والماهية والجوهر
وهي كلمات مترادفة تأتي بمعنى واحد وهو الدلالة على الذات، لكنها تختلف في تعميق المعنى؛ فالماهية عبارة سؤال تبحث عن كلية الإنسان تأتي بصيغة (ما هُو) ويجاب عنها بصيغة (هو كذا وكذا …) كماهية الإنسان يتميز بها عن غيره من المخلوقات، والهوية: عبارة تطلق على جزئيات الإنسان وسماته الأساسية وصفاته الخلقية والأخلاقية، والجوهر: عبارة تطلق على الشيء النفيس والغالي يكتسب ذلك من الندرة وقوة الجاذبية، وهذا مفهوم أعمق يدل على حقيقة المعدن والمنبت، ومكنون الصدر وسعة الأفق.
ثالثاً: الهَوية والهِواية:
قد سبق معنى الهَوية، وأما الهِواية: فهي نشاط يُشغف به المرء، من لعب أو عمل محبوب، ويقضي أوقات فراغه في مزاولته، حتى ولو بدون حرفة. (مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، 2011م) وهي بهذا المعنى لها ارتباط وثيق بالهَوية بفتح الهاء، فكلاهما يدل على شغف المحبة ومزاولة السلوك لدى المحبوب.
يُستنتج من التعريفات وملابسات المصطلح ما يلي:
- أن لفظ الهوية له مرادفات في اللفظ (الهُوية، والهَوية، والماهية، والهِواية، والجوهر…) ومرادفات في المعنى ( الذات، والوجود، والشخصية، والحقيقة، والسقوط من أعلى، والبئر العميقة، ورغبات النفس وأهوائها.)، وهذا الذي يجعل البعض يستصعب تحديد مفهومه فينفيه، أو يثبته البعض بجوانب فلسفية منطقية أو من وجهة علم النفس.
- الهوية إما تنبع من داخل الإنسان ومحيطه الداخلي، وهي بذلك تعبر عن مبادئه ومعتقداته وقيمه التي يسلكها فيميزه بها الآخرون عن غيره ويعرفونه من هو، وتسمى بهذا الاتجاه (الهوية الفردية). وإما تنبع مما تأثر به من محيطه الخارجي، وهي بذلك تعبر عن مبادئ الآخرين وقيمهم، وكأنه يمثل في المسرح دور شخصية ما ، وتختفي شخصيته بقدر ما يقلد ويتغمس في شخصية الآخرين. وتسمى بهذا الاتجاه (الهوية الجماعية) ، والعلاقة بين الهوية الفردية والهوية الجماعية علاقة اضطرادية كلما ظهرت الأولى اختفت الثانية، وكلما ظهرت الثانية اختفت الأولى، نسبياًّ أو كلياًّ.
مصادر الهوية عند المسلم:
مصادر الهوية الإسلامية للفرد المسلم تتكون من ثلاث عناصر رئيسية يندرج تحتها ما يقصد بالمكونات والمقومات للهوية وهي :
- المبادئ التي ينطلق منها المسلم وتشتمل على العقيدة والتأريخ واللغة.
- المفاهيم الإسلامية: وهي المعلومات التي تبني المعرفة لدى الفرد والمجتمع، وتشمل العادات والتقاليد والتفاعل الاجتماعي، والتي تعنى بالتنشئة الاجتماعية، والثقافة المشتركة، وتشمل الاجتهادات الفقهية كالاستنباط، والقياس،
- القيم الإسلامية: يُعبر بها عن المظاهر السلوكية والتطبيقات التربوية، بحيث تعطي للإنسان قيمة لدى مجتمعه، وهذا يدخل في باب المعاملات والعلاقات والأخلاق.
المبادئ: هي ما يُسلم به لوضوحه، وهي عقيدة يلتزم بها المسلم في سلوكه، وهي القواعد الأساسية التي يقوم عليها كل فن ، وهي عبارة عن الكليات التي يتوقف عليها مسائل العلم كتحرير المباحث وتقرير المذاهب، وهي الأصول التي يبني بها الإنسان حياته الدنيوية والأخروية، ويوطد بها علاقته مع ربه ومع الناس، وذكر الجرجاني في التعريفات انها: (المقدمات التي تنتهي الأدلة والحجج إليها من الضروريات والمسلمات، وهي التي لا تحتاج إلى البرهان.)
من أمثلة المبادئ: العقيدة، واللغة، والتأريخ: وهي عبارة عن المبادئ والثوابت التي لا تتغير، والبراهين التي لا تنحرف، ينبغي للمسلم الحفاظ عليها، والاهتمام بالتطلع على كلياتها وجزئياتها، وتعلم ما يمكن تعلمه منها، قال الله تعالى:(( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين.)) البينة/5 وقال تعالى : ((إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين.)) يوسف/ 3 وقال تعالى: (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين.)) الأنعام/90
المفاهيم: هي الأفكار التي تحكي عن التصورات العقلية التي يمر بها الإنسان من خلال الخبرات أو الأحداث. وقيل إنها: “هي التصورات الذهنية والمعنوية التي يطلقها الإنسان على المصطلحات المنطوقة عند سماعه من أجل إعطائه الحقائق والدلالات والمعاني والأسماء، وهي مسائل مادية تدرك بالحواس، أو مجردة تدرك بالعقل، وتشمل الصفات الجوهرية التي تميز الأشياء والأسماء عن بعضها بعضاً، وترسم صورة ذهنية محددة لمنطوق الشيء ذاته” (الخوالدة، محمد، 2004م، ص: 333)
وقيل إنها معان مرتبطة عن أسماء ورموز تتعلق بالظواهر الطبيعية. والفهم قيل أنه حُسن تصور المعنى أو هو جودة استعداد الذهن للاستنباط.
من أمثلة المفاهيم: الثقافة التي يمتلكها المسلم وهي؛ عبارة عن مفاهيم تتطلب منه البحث والتنقيب والترتيب لأجل عرضها على المبادئ التي يستمد منها ويعتمد عليها في سلوكياته، فما وافقها أخذ به وما خالفها تركه وأعرض عنه. والثقافة تعني معرفة شيء عن كل شيء. ولا ينبغي للمسلم أن يعتمد على الثقافة في أمور الدين واللغة والتأريخ، بل ينبغي عليه أن يتعلم ويطبق ويعتز بأمور دينه ولغته وتأريخه، وإن لم يفعل فسوف يقف حائراً في وسط الطريق لا يدري أين يسلك، وماذا ربح في العمر الذي أمضاه في التثقف في كل شيء.
القيم: قالوا القيم هي الاستقامة مأخوذة من قوله تعالى: ﴿دينا قيما﴾ الأنعام/161 ، وهي العادات السلوكية والعملية التي يقوم بها الإنسان ويكتسب قيمته الإنسانية من خلالها معتمداً على مبادئه الإسلامية والإنسانية.
من أمثلة القيم: الأخلاق التي يتعامل بها المسلم: وهي عبارة عن القيم التي يسلكها، والتطبيقات التي يطبقها من مبادئه الإسلامية، وعاداته الاجتماعية، ولغته المحلية والقومية. ولا بد لأخلاقه أن تحكي عن مبادئه ومفاهيمه حتى يفهم الآخرون هويته وسماته وخصائصه.
المبادئ هي: المسلمات والكليات والأدلة والضروريات التي ينبغي للمسلم أن يتمسك بها ويعتقدها ويتعبد بها، وأما القيم فهي: الاستقامة على المبادئ وتفسيرها إلى سلوك عملي ليكتسب المسلم قيمته الحقيقية من خلال تطبيقه لمبادئه الأساسية، وأما المفاهيم فهي: التصورات العقلية لجزئيات معينة للبحث عن الحقيقة في شيء ما.
فالمفاهيم تحرسها المبادئ، والمبادئ تفسرها القيم ومن تلك المصطلحات الثلاثة تبرز هوية الفرد المسلم. يتميز بها عن غيره ، ويعرفه الآخرون بتلك السمات والخصائص والسلوكيات. وهي مصادر ومكونات ومقومات الهوية عند المسلم.
الخاتمة: يمكن تلخيص ما سبق فيما يلي:-
أولاً: الهوية هي تعريف المجهول لأن المعروف لا يعرف نفسه أمام من يعرفه، والمسلم يحتاج إلى إبراز هويته عند من لا يعرفه سواءاً كانت حسية أم معنوية، وهذا التعريف إما يكون دفاعاً عن النفس والدين والعرض وهذا ما هو حاصل في عالمنا المعاصر، أو عرضاً للآخرين ليسلكوا منهجه ويقلدوا هويته ويتأثروا بما يعتقده ، وهذا ما نفتقده في عالمنا المعاصر. ومن جانب آخر يقي المسلم من تقليد الآخرين في هوياتهم وثقافاتهم ، لأن صاحب الهوية هدفه المرور والعبور لأجل مواصلة الطريق.
ثانياً: هوية المسلم لا بد أن يُبرز فيها دينه ولغته وتأريخه من أخلاقه وقيمه التي يطبقها، والثقافة العابرة لا تصنع المبادئ بل تؤثر في المبادئ والهوية، والبدايات تدلك على النهايات.
ثالثاً: هوية المسلم تعني تقدير الذات وتمييزها عن الآخرين، ودعمها بالمبادئ الإسلامية، حتى لا تنحرف عن الصراط، وكما يبرز المرء هويته بالبطاقة الشخصية للتعريف بالأحوال الاجتماعية كذلك لا بد أن يبرز هويته الإسلامية من خلال معاملته مع الآخرين، للتعريف بأحواله الإيمانية والإنسانية. كما قال النبي r «اتق الله حيث ما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.»
رابعاً: عدم التفريق بين المبادئ والمفاهيم يعرض الإنسان إلى متاهات القول في الدين بلا علم، ويجره إلى الاهتمام بالجزئيات قبل معرفة الكليات وفي ذلك هلاك الشخص وفتنة المجتمع، يعيش متخبطاً في حياته الشخصية والدينية والاجتماعية؛ فما كان قد حرمه سابقاً ربما أحله لاحقاً، ومن كان يعاديه بالأمس بدون سبب أصبح اليوم مقبولاً عنده بلا سبب، لأن المفاهيم تتغير والمبادئ لا تتغير.
خامساً: ضعف الهوية أو فقدانها يعني الانخراط في المسلك الخاطئ وينتج عن ذلك: اتباع الهوى، ومنافقة الواقع(مخالفة الأعمال الظاهرة للأعمال الباطنة ) ، والتقليد الأعمى للثقافات الأخرى، وكراهية الدين باسم التطور، وبذلك تفقد الأمة الإسلامية أحد أفرادها وربما يكون وبالاً عليها، ومن لا هوية له؛ لا يفخر بماضٍ ولا يهنئ بحاضر ولا يحلم بمستقبل. وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى .