الصدق جماع الخير كله

13 مارس 2022 1169

بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الإسلام باعتباره الرسالة السماوية الوحيدة كما في قوله تعالى: (إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ) [آل عمران/١٩] وهو مصدر الهداية والنور للبشرية حيث واكب مسيرتها منذ البداية تحقيقا لوعد الله بذلك(قُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ مِنۡهَا جَمِیعࣰاۖ فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدࣰى فَمَن تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ) البقرة/٣٨ وتتابعت الهدايات الإلهية للبشر مع تطورهم العمراني والاجتماعي وهي تشتمل الهدايات المعرفية والإيمانية والتشريعية والقيمية الأخلاقية والمنهجية وقد ظلت الهدايات القيمية الأخلاقية تتراكم حتى بلغت تمامها مع بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: عن أبي هريرة: ( إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ وفي روايةٍ (صالحَ) الأخلاقِ) [السلسلة الصحيحة للألباني/ ٤٥]

وفي الحديث دلالة على أن مكارم وصالح الأخلاق من المشترك الرسالي بين الرسل جميعا مع تفاوت في عدها وحدها ولكن بلغت ذروتها ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

ومن الأخلاق الحميدة والصالحة والكريمة التي بعث بها الرسل جميعا ورسولنا خاصة خلق (الصدق) وكان من أعظم الظلم التكذيب بالصدق الرسالي المنزل من الله تعالى  قال تعالى: (فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدۡقِ إِذۡ جَاۤءَهُۥۤۚ أَلَیۡسَ فِی جَهَنَّمَ مَثۡوࣰى لِّلۡكَـٰفِرِینَ) [الزمر/٣٢] والصدق خلق كريم وصالح وهو جامع لكل خير وهو دليل وهاد لطريق البر فمن وفق للصدق فقد نال خيرا عظيما في باب الأخلاق ومكارمها يقول ابن القيم رحمه الله عن الصدق: (هو منزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه يتميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه( [مدارج السالكين ( 24/2)]

  وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(عليكم بالصِّدقِ فإنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البرِّ وإنَّ البرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ وما يزالُ الرَّجلُ يصدقُ، ويتحرّى الصِّدقَ حتّى يُكتبَ عندَ اللهِ صدِّيقًا وإيّاكم والكذبَ فإنَّ الكذبَ يَهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يَهدي إلى النّارِ، وما يزالُ العبدُ يَكذبُ ويتحرّى الكذبَ حتّى يُكتبَ عندَ اللهِ كذّابًا )

صحيح الترمذي/ الألباني واللفظ له / ابن حبان وأحمد في مسنده وغيرهم

والصدق هو مطابقة القول للفعل أو الوصف والخبر للواقع وهو ضد الكذب ويدل على قوة الشيء وصلابته وصاحب الصدق قوي بصدقه وصلب في مواقفه بخلاف صاحب الكذب فهو ضعيف مرتبك لا يقوى على شيء ومتقلب في مواقفه قال الماوردي:(الصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه، والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، والصدق والكذب يدخلان الأخبار الماضية، كما أن الوفاء والخلف يدخلان المواعيد المستقبلي ( [أدب الدنيا والدين /322]

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق على الصدق وحذر من الكذب بقوله (عليكم بالصدق / إياكم والكذب) وقد قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (قال العلماء: هذا فيه حث على تحرِّي الصدق، وهو قصده والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنَّه إذا تساهل فيه كثر منه، فعرف به، وكتبه الله لمبالغته صِدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده. ومعنى يكتب هنا يحكم له بذلك، ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتبه في ذلك؛ ليشتهر بحظِّه من الصفتين في الملأ الأعلى، وإما بأن يلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، وكما يوضع له القبول والبغضاء، وإلا فقدر الله تعالى وكتابه السابق بكلِّ ذلك).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك في الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة)).

شرح النووي على مسلم (كتاب البر والصلة والآداب)

 وهذا تأكيد لما ورد من نصوص قرآنية متوافرة كثرة وعددا كما هو وضع السنة النبوية في تفصيل وبيان عموم القرآن ومجمله حيث تجاوزت مفردة الصدق ومشتقاتها بما يتعلق بموضوعنا (مائة وثلاثين) (130) مرة في كتاب الله تعالى منها ما يلي:

1/ (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) [يس :٥٢]

2/ (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) [الواقعة :57]

3/ (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل من لدنك سلطانا نصيرا) [الإسراء: 80]

4/ (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) [مريم :54]

5/ (فما لنا من شافعين ۝ ولا صديق حميم) [الشعراء: 100/101]

6/ (يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات) [يوسف/ 46]

وجاء الصدق في القرآن بمعناه اللغوي، وهو: مطابقة الخبر للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، والإخبار عن الشيء على ما هو به، نقيض الكذب، ويكون في الأقوال والأفعال والأحوال.

أنواع الصدق:

1/ صدق النية والإرادة:

 وهو رأس الأمر في الصدق فصدق النوايا مع الله والناس يخرج الإنسان من دائرة الكذب والنفاق والصدق مع الله يتأسس على تجريد الإخلاص لله وتوحيده والبعد عن الشرك بكافة صوره وأشكاله وأن تكون الأعمال كلها طلبا لمرضاته فلا قبول للعمل إلا بذلك والنية محلها القلب وقد يبلغ المرء بنيته الصادقة منازل عظيمة ومقامات عالية يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” من

طلب الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وان مات على فراشه”

كما يمكنه الانحدار في دركات سحيقة بالنية الخبيثة الكاذبة كما هو حال المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار.

ويدخل في صدق النية الصدق في مقامات الدين المختلفة من توكل ورجاء وخوف وخشية ورهبة وغيرها قال تعالى (طَاعَةࣱ وَقَوۡلࣱ مَّعۡرُوفࣱۚ فَإِذَا عَزَمَ ٱلۡأَمۡرُ فَلَوۡ صَدَقُوا۟ ٱللَّهَ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۡ ) [محمد/ 21]

2/ صدق العزم:

كل إنسان قبل أن يقوم بالعمل فإنه يسبق ذلك بالنية والإرادة الصادقة وبلورة الفكرة في تصور عام ثم يعزم على تحويلها لعمل ملموس فإذا كان صادقا في عزمه وتوفرت له القدرات تحول الفكر والتصور والإرادة إلى عمل في الواقع قال تعالى (فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِینَ ) [آل عمران/159] وما نقصده بالصدق في العزم هو الخروج عن دائرة التردد بين الفعل وعدمه وهذا النوع من العزم هو أحد شروط التوبة المقبولة عند الله من الذنوب والمعاصي ويضاف للصدق في العزم كذلك الصدق في الوفاء بالعزم كما ذهب إلى ذلك الإمام الغزالي رحمه الله تعالى .

 3/ صدق القول:

وهو صدق الحديث واللسان في الإخبار والشهادة وأعظم أنواع الصدق في القول ما كان متعلقا بالله تعالى فأعظم كبيرة من الكبائر القول على الله بلا علم (وأن تقولوا الله ما لا تعلمون) ونسبة ما لم يشرعه إليه وكذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ومن أنواع الصدق في القول صدق المعاملات من تجارة وزواج وشهادة بل يحث الإسلام على الصدق حتى في المزاح فلا يقول فيه إلا حقا

4/ صدق العمل:

ومن أنواع الصدق المطلوب شرعا هو الصدق في الأعمال وذلك بالقيام بها على أحسن الوجوه وأتمها وأن يتقن ما يقوم به من الأعمال بينه وبين الله وبينه وبين الخلق وأن تكون أعمال المرء الظاهرة صورة لحالته الباطنة بعيدا عن الرياء وطلب الظهور قال تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدواالله عليه) والصدق في العمل ملازم للصدق في النية والعزم والقول بطبيعة الحال وهو تتويج لها وتجليا من تجلياتها ومظاهرها فالصدق فيما سبق يؤثر في كافة الأعمال من شعائر ومعاملات وعهود ومواثيق ووعود وقد ذم الله قوما لا يصدقون في أعمالهم وتخالف أقوالهم أفعالهم قال تعالى: ( لم تقولون م لا تفعلون ) ( أتأمرون الناس ..)

ولا يزال العبد المكلف يرتقي في مقامات الصدق بأنواعه المختلفة حتى يكتب عند الله صديقا(كما ورد في الحديث) وهي مرتبة دون النبوة وفوق الشهادة والصلاح وهو المقام الذي أمر الله عباده بأن يكون مع أهله ولاءً ونصرة وجهادا قال تعالى (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَكُونُوا۟ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِینَ) [التوبة/ 119].

ونال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام الأسمى في الصدق لأنه رباهم على الصدق وبغض إليهم الكذب كما ورد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت (ما كانَ خلقٌ أبغضَ إلى رسولِ اللهِ ﷺ منَ الكذبِ ولقد كانَ الرَّجلُ يحدِّثُ عندَ النَّبيِّ ﷺ بالكذبةِ فما يزالُ في نفسِه حتّى يعلمَ أنَّهُ قد أحدثَ منها توبةً) [الألباني/ صحيح الترمذي].

والحديث الوارد عن الصدق من دلالاته الهامة مسألة التحري في الصدق (ويتحرى الصدق) وهو أمر زائد عن مجرد قول الصدق لأن فيه التحقيق والتدقيق وقد أسس علماء الإسلام علم الحديث وقواعده وضوابطه على هذا الأمر فيما يعرف بصدق الرواة وضبطهم حتى تميزت الأمة المسلمة بهذا العلم الذي ثبت وحفظ من خلاله الحديث النبوي حتى يومنا هذا. وخلاصة القول فالمطلوب تأسيس الحياة كلها على الصدق لأنه يعبر عن الحقيقة والواقع واجتناب الكذب لأنه تعبير عن الزيف والوهم وفيه تضليل وابتعاد عن الحقيقة وفي الصدق الفوز في الدارين  قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِی جَاۤءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ۝٣٣ لَهُم مَّا یَشَاۤءُونَ عِندَ رَبِّهِمۡۚ ذَ ٰ⁠لِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡمُحۡسِنِینَ ۝٣٤ لِیُكَفِّرَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ أَسۡوَأَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ وَیَجۡزِیَهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ ۝٣٥ أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ وَیُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِینَ مِن دُونِهِۦۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادࣲ ۝٣٦ وَمَن یَهۡدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّضِلٍّۗ أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِعَزِیزࣲ ذِی ٱنتِقَامࣲ ۝٣٧﴾ [الزمر ٣٣-٣٧]

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *