بقلم/ أبو عبدالله الحسيني
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على رسول الله الأمين صاحب البلاغ المبين والسبيل القويم كما وصفه ربه جل جلاله: (وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحࣰا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ) [الشورى 52]
إن الدين يتأسس على قاعدتي الإيمان والاستقامة فالإيمان أساسه التصورات والعقائد والمفاهيم والعلوم القائمة على الحق والاستقامة هو السلوك القويم والعمل الصالح وترك المحرمات والطغيان قال تعالى( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا)
قال العلامة الفخر الرازي في تفسيره عن هذه الآية ( اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أطْنَبَ في شَرْحِ الوَعْدِ والوَعِيدِ قالَ لِرَسُولِهِ: ﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾ وهَذِهِ الكَلِمَةُ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ في كُلِّ ما يَتَعَلَّقُ بِالعَقائِدِ والأعْمالِ، سَواءٌ كانَ مُخْتَصًّا بِهِ أوْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِتَبْلِيغِ الوَحْيِ وبَيانِ الشَّرائِعِ، ولا شَكَّ أنَّ البَقاءَ عَلى الِاسْتِقامَةِ الحَقِيقِيَّةِ مُشْكِلٌ جِدًّا، وأنا أضْرِبُ لِذَلِكَ مِثالًا يُقَرِّبُ صُعُوبَةَ هَذا المَعْنى إلى العَقْلِ السَّلِيمِ، وهو أنَّ الخَطَّ المُسْتَقِيمَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الظِّلِّ وبَيْنَ الضَّوْءِ جُزْءٌ واحِدٌ لا يَقْبَلُ القِسْمَةَ في العَرْضِ، إلّا أنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الخَطِّ مِمّا لا يَتَمَيَّزُ في الحِسِّ عَنْ طَرَفَيْهِ، فَإنَّهُ إذا قَرُبَ طَرَفُ الظِّلِّ مِن طَرَفِ الضَّوْءِ اشْتَبَهَ البَعْضُ بِالبَعْضِ في الحِسِّ، فَلَمْ يَقَعِ الحِسُّ عَلى إدْراكِ ذَلِكَ الخَطِّ بِعَيْنِهِ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا في المِثالِ فاعْرِفْ مِثالَهُ في جَمِيعِ أبْوابِ العُبُودِيَّةِ، فَأوَّلَها: مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى، وتَحْصِيلُ هَذِهِ المَعْرِفَةِ عَلى وجْهٍ يُبْقِي العَبْدَ مَصُونًا في طَرَفِ الإثْباتِ عَنِ التَّشْبِيهِ وفي طَرَفِ النَّفْيِ عَنِ التَّعْطِيلِ في غايَةِ الصُّعُوبَةِ، واعْتَبِرْ سائِرَ مَقاماتِ المَعْرِفَةِ مِن نَفْسِكَ، وأيْضًا فالقُوَّةُ الغَضَبِيَّةُ والقُوَّةُ الشَّهْوانِيَّةُ حَصَلَ لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما طَرَفا إفْراطٍ وتَفْرِيطٍ، وهُما مَذْمُومانِ، والفاصِلُ هو المُتَوَسِّطُ بَيْنَهُما بِحَيْثُ لا يَمِيلُ إلى أحَدِ الجانِبَيْنِ، والوُقُوفُ عَلَيْهِ صَعْبٌ، ثُمَّ العَمَلُ بِهِ أصْعَبُ، فَثَبَتَ أنَّ مَعْرِفَةَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ في غايَةِ الصُّعُوبَةِ، بِتَقْدِيرِ مَعْرِفَتِهِ، فالبَقاءُ عَلَيْهِ والعَمَلُ بِهِ أصْعَبُ، ولَمّا كانَ هَذا المَقامُ في غايَةِ الصُّعُوبَةِ لا جَرَمَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في جَمِيعِ القُرْآنِ آيَةٌ أشَدُّ ولا أشَقُّ عَلَيْهِ مِن هَذِهِ الآيَةِ؛ ولِهَذا قالَ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«شَيَّبَتْنِي هُودٌ وأخَواتُها» “، وعَنْ بَعْضِهِمْ قالَ: رَأيْتُ النَّبِيَّ ﷺ في النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: رُوِيَ عَنْكَ أنَّكَ قُلْتَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وأخَواتُها ؟ فَقالَ: ”نَعَمْ“، فَقُلْتُ: وبِأيِّ آيَةٍ ؟ فَقالَ: بِقَوْلِهِ: ﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾ وقد نقلت كلام الرازي بطوله لأهميته ولما فيه من تفصيل دقيق عن الاستقامة وشمولها لكل مقامات العبودية الخالصة لله ولدقتها وصعوبة الالتزام بها ولما كانت الاستقامة بهذا المقام الجليل فقد كانت من أجمع وصايا وتوجيهات ونصائح النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله في الدين عن مقالة جامعة بقوله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قل آمنت بالله ثم استقم ) صحيح مسلم وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم فقد لخص وجمع الدين في كلمتين تمثلان جماع الدين: (الإيمان بالله جل جلاله والاستقامة على شرعه ودينه ) وهما جواب السؤال الأهم يوم القيامة ( ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ) في قوله تعالى: (فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِینَ أُرۡسِلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِینَ ) أعراف/٦ قال تعالى: (وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ فَیَقُولُ مَاذَاۤ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ) [القصص 65]
وأهم مقومات الاستقامة استشعار عظمة الله من خلال النظر في خلقه وأمره والتدبر في آياته الكونية ومعرفة أسمائه وصفاته وتنزيهه عن كل نقص ومراقبته في السر والعلن وهذا كله من الإيمان الدافع للاستقامة ثم القيام بالواجبات الشرعية من صلاة وصيام وزكاة وحج وأمر بمعروف ونهي عن منكر وترك المحرمات من عقوق للوالدين وقطيعة الرحم والفواحش ما ظهر منها وما بطن وقتل النفوس بغير حق والتطفيف في الكيل والميزان وشهادة الزور والكذب ونقض العهود والمواثيق وغيرها مما حرمه الشارع فكل ذلك من الاستقامة الشعائرية والسلوكية ويعمل المكلف على التقرب إلى الله بعد ذلك بالنوافل والمستحبات وترك المكروهات والشبهات فهي سياج الحماية للواجبات والفروض والمحرمات
لأن حقيقة الاستقامة الشرعية ومقتضاها هو لزوم الصراط المستقيم برعاية الواجبات وترك المحرمات والتزام الحدود ورعاية الحقوق كافة من سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها كما وردت في آية الوصايا العشر قال تعالى: (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰطِی مُسۡتَقِیمࣰا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) [الأنعام ١٥٣]
وبذلك يتضح أن الاستقامة منظور شامل ينطلق من الإيمان وتتجلى مظاهره في الأخلاق وتزكية النفوس وتأدية الشعائر وتحقيق مقتضيات الاستخلاف والعمران وفق هدايات الشرع ومقاصده وأحكامه انطلاقا من قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر المؤدي للشعور بالمسؤولية في الدنيا والآخرة وبها يكون للحياة معنى ومغزى بعيدا عن العبثية والعدمية.
والاستقامة لها تحديات كبيرة وكثيرة منها: النفس البشرية وهواها وشهواتها وشبهاتها ونزغات الشيطان ووساوسه وتوهيمه والدنيا وزخرفها وزينتها وكذلك رفقاء السوء في مسيرة الحياة وتضليلهم وتزيينهم للغي والضلال وغياب الرشد الشخصي والجماعي وكذلك الزوج والأولاد الذين لا يعيشون معك هم الاستقامة الشرعية بل يكونون سببا في الغواية والضلال.
ومن الجدير بالذكر التنبيه إلى أن الاستقامة من أعظم نعم الله على العبد ولولا هداية الله لنا ما اهتدينا كما جاء في الحديث :(يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلّا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكُم) رواه ابن ماجه وأحمد.
وكما هو معلوم فإن النعم تدوم بالشكر وتزول بالكفر قال تعالى: (وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَىِٕن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِیدَنَّكُمۡۖ وَلَىِٕن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدࣱ) [إبراهيم 7]
ومن عوامل الثبات على الاستقامة والاستمرار فيها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: (وَٱلَّذِینَ ٱهۡتَدَوۡا۟ زَادَهُمۡ هُدࣰى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ) [محمد 17].
نسأل الله أن يرزقنا الإيمان والاستقامة ويميتنا عليها إنه نعم المسؤول.