بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الحمد الله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا والصلاة والسلام على النبي الأمين شاهدا ومبلغا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
1/ تنزيل من الرحمن الرحيم :
تنبع عظمة القرآن الكريم من كونه كلام الله جل جلاله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات ليكون مصدر الحق والخير والهداية والرشد للناس كافة وقد تكاثرت النصوص الشرعية حول نزول القرآن وتنزيله كما في الآيات التالية قال تعالى:
-(وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ) البقرة / 4 -(شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۗ یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُوا۟ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) البقرة/١٨٥
-(وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا) الإسراء/١٠٦
-( وَإِنَّهُۥ لَتَنزِیلُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ) الشعراء/١٩٢
-( تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا رَیۡبَ فِیهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ) السجدة/٢
-( إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةࣲ مُّبَـٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِینَ) الدخان/٣
-( إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ) القدر/1
2/ حكمة التنجيم في التنزيل :
فالقرآن الكريم مصدره علوي سماوي – كما تقدم – وقد نزل بواسطة جبريل عليه السلام منجما عبر سنوات البعثة المحمدية وقد تعددت أقوال العلماء في نزول القرآن بحسب اختلافهم في تأويل الآيات السابقة ، والصحيح الأشهر منها هو القول بأنّ القرآن الكريم له تنزلان ، نزوله جملة، ونزوله مفرّقا. قال ابن حجر-رحمه الله- في الفتح: هو الصحيح المعتمد.
وذهب الشعبي وابن اسحاق وغيرهما أن للقرآن نزولا واحدا وهو نزوله على الرسول ﷺ ابتداء في ليلة القدر ثم تتابع نزوله منجّمًا _ مفرقا _ بحسب الوقائع والأحداث، مستدلّين بآيات نزول القرآن، ولا تعارض بين هذا القول والقول المشهور، إذ لا مانع من نزول القرآن جملة ونزوله ابتداء في ليلة القدر حتى اكتمل التنزيل كاملا وبلغت سوره أربع عشرة ومائة سورة ( 114) في ثلاثين جزءا وستين حزبا وعدد آيات الكتاب العزيز ستة وثلاثين ومئتين وستة آلاف آية ( 6236)
ولعل الحكمة من هذا النزول المنجم –المفرق- هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم بمواكبة الأحداث شيئا فشيئا والتدرج بالمجتمع المسلم تربية وتعليما من خلال الوقائع وتثبيت الأصول قبل الفروع والكليات قبل الجزئيات قال تعالى ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلًا ﴾ سورة الفرقان/32
3/ التقسيم المكي والمدني:
ويقسم العلماء القرآن الكريم من حيث النزول إلى مرحلتين وذلك للتمييز بينهما وما يترتب على ذلك من فوائد علمية ومنهجية في الخطاب الشرعي و هما:
-القرآن المكي وهو كل ما نزل في المرحلة المكية أي قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان نزوله خارج مكة وهذا القسم.
-القرآن المدني وهو كل ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله خارج المدينة .
ولكل من هذين القسمين خصائص وميزات تميز بها يقول الدكتور مناع القطان رحمه الله :” استقرأ العلماء السور المكية والسور المدنية ، واستنبطوا ضوابط قياسية لكل من المكي والمدني ، تبين خصائص الأسلوب والموضوعات التي يتناولها ، وخرجوا من ذلك بقواعد ومميزات :
ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية :
1- كل سورة فيها سجدة فهي مكية .
2- كل سورة فيها لفظ ” كلا ” فهي مكية ، ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن . وذُكرت ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة .
3- كل سورة فيها : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ، وليس فيها : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواُ ) فهي مكية ، إلا سورة الحج ، ففي أواخرها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ) ، ومع هذا فإن كثيرًا من العلماء يرى أن هذه الآية مكية كذلك .
4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة فهي مكية ، سوى البقرة .
5- كل سورة فيها آدم وإبليس فهي مكية ، سوى البقرة كذلك .
ضوابط المدني ومميزاته الموضوعية :
1- كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية .
2- كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ، سوى العنكبوت ، فإنها مكية .
3- كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية .
هذا من ناحية الضوابط ، أما من ناحية المميزات الموضوعية ، وخصائص الأسلوب ، فيمكن إجمالها فيما يأتي :
1- بيان العبادات ، والمعاملات ، والحدود ، ونظام الأسرة ، والمواريث ، وفضيلة الجهاد ، والصلات الاجتماعية ، والعلاقات الدولية في السلم والحرب ، وقواعد الحكم ، ومسائل التشريع .
2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وبيان تحريفهم لكتب الله ، وتجنيهم على الحق ، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم .
3- الكشف عن سلوك المنافقين ، وتحليل نفسيتهم ، وإزاحة الستار عن خباياهم ، وبيان خطرهم على الدين .
4- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضح أهدافها ومراميها ” انتهى.
“مباحث في علوم القرآن” (62-64)
وخلاصة القول فإن القران المكي يركز في الكليات والأصول والقواعد الكبرى التي يتأسس عليها بنيان الشريعة من الإلهيات والنبوات والمعاد وأصول التشريع والحديث عن قصص الأوليين ومواقفهم من الرسل والرسالات كما يتناول البينات الرسالية وآيات الإعجاز , والقرآن المدني غالبه في تفصيل الكليات الشرعية وبيانها والحديث عن تمكين المسلمين وجهادهم وتناول الولاية العامة والسياسات المتعلقة بالدولة وبنائها وعلاقاتها مع المخالفين سلما أو عهدا أو حربا .
وإن القرآن الكريم فيه ست وثمانون سورة مكية، وثمان وعشرون سورة مدنية، ومنهم من قال بخلاف ذلك كالعلامة الزركشي في البرهان: فَجَمِيعُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سُورَةً وَجَمِيعُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً عَلَى اختلاف الروايات) . والحديث عن المكي والمدني وأساليب كل منهما وموضوعاتهما ومعالمهما الدلالية مما ذكره أهل التفسير وعلوم القرآن وإن كانت قد أسهمت في شرح العلاقة بين الواقع الأول والبيان القرآني من حيث معرفة المتقدم والمتأخر ومعرفة الناسخ والمنسوخ وطبيعة التدرج التشريعي والانتقال المنهجي بالمجتمع وحركة الأمة وسيرورتها نحو التمكين وبناء دولة الدعوة وولاية الأمة إلا أنه وبعد الترتيب النهائي للقرآن الكريم وهو أمر توقيفي، لا اختيار للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، يكون البحث في الدلالات القرآنية من خلال الوحدة البنائية للسورة والسياق الخاص بالآيات دوم تنجيم للنص ودلالاته ضمن سياق النزول ومناسباته أو التقسيم الزماني والمكاني المعروف بالمكي والمدني ولعل هذا ما رمى إليه علماء الأصول عندما قرروا بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.