بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا.
إن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى وحجته على خلقه ويتضمن مراده في أمره ونهيه وهو مشروع الهداية للناس كافة ولما كانت العلاقة مع الله جل جلاله علاقة غيب كان لا بد من البرهان والدليل على صحة وصدق نسبة الرسالة إلى مرسلها ورسولها وإلا كانت دعوى بلا دليل منسوبة لقائلها وهذه الأدلة والبراهين هي الفارق والفيصل بين النبوءة الصادقة وأدعياء النبوءة من الكاذبين واعتنى القرآن الكريم بهذه القضية كثيرا سواء في تناوله للسابقين من الرسل عليهم السلام أو في الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتناولها بمسميات مختلفة نجملها على النحو التالي :
- الآيات أو الآية : وهي العلامة الدالة على شيء معين وتطلق على العبرة والدليل كما تطلق الآية على ما هو جزء من السورة لها بداية ونهاية وتطلق على ما سمي بالمعجزة ويفهم كل ذلك من السياق العام للنص القرآني قال تعالى (وَأَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ لَىِٕن جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَةࣱ لَّیُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡـَٔایَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا یُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَاۤ إِذَا جَاۤءَتۡ لَا یُؤۡمِنُونَ) الأنعام/١٠٩
(وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ فَظَلَمُوا۟ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا) الإسراء/٥٩ والحديث في كلا الآيتين هو عن الآيات المصدقة لرسالة الرسول ومبينة لنبوته وهي دليل وعلامة وعبرة وتحمل معنى التحدي والإعجاز.
- البينات أو البينة:
وهي اسم للآيات الدالة على صدق الرسول _ أي رسول _ وتعني الحجة الواضحة والدليل البين والبرهان الساطع والآية الفاصلة ولا يكاد يبعث الله رسولا بلا بينة سواء ذكرت لنا أو لم تذكر قال تعالى : (وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فِی ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ) المائدة/٣٢
( لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ) الحديد/٢٥ولئن كان ذلك في الرسل كافة فقد وردت مفردة البينات كذلك مع أفراد الرسل كما هو الحال مع موسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم الصلاة والسلام قال تعالى :
( وَلَقَدۡ جَاۤءَكُم مُّوسَىٰ بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَـٰلِمُونَ) البقرة/٩٢
(وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَقَفَّیۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ ) البقرة/٨٧
(وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ءَایَـٰتِۭ بَیِّنَـٰتࣲۖ وَمَا یَكۡفُرُ بِهَاۤ إِلَّا ٱلۡفَـٰسِقُونَ) البقرة/٩٩
- البصائر أو البصيرة:
والمراد بالبصيرة والبصائر هنا البرهان والحجة الكاشفة التي تزيل الغشاوة والعمى عن العقول والقلوب قال تعالى (قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ) يوسف/ ١٠٨
( قَدۡ جَاۤءَكُم بَصَاۤىِٕرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِیَ فَعَلَیۡهَاۚ وَمَاۤ أَنَا۠ عَلَیۡكُم بِحَفِیظࣲ) الأنعام/١٠٤
( هَـٰذَا بَصَـٰۤىِٕرُ لِلنَّاسِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّقَوۡمࣲ یُوقِنُونَ) الجاثية/٢٠
- البراهين أو البرهان :
وهو أوكد الأدلة و أقواها وهو الذي يقتضي الصدق وتقوم به الحجة القاطعة قال تعالى :
( أَمَّن یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَمَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ) النمل/٦٤
( ٱسۡلُكۡ یَدَكَ فِی جَیۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَیۡضَاۤءَ مِنۡ غَیۡرِ سُوۤءࣲ وَٱضۡمُمۡ إِلَیۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَ ٰنِكَ بُرۡهَـٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِی۟هِۦۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ قَوۡمࣰا فَـٰسِقِینَ) القصص/٣٢
( یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَكُم بُرۡهَـٰنࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ نُورࣰا مُّبِینࣰا) النساء/١٧٤
وهذه الآيات والبينات والبراهين والبصائر هي الحجج الدالة على صدق الرسول فيما يبلغه عن الله من رسالة وهي التي أطلق عليها في التراث الإسلامي _ لاحقا _ بالمعجزات رغم أنها لم ترد في القرآن الكريم بهذا الاسم ولكنهم نظروا لما فيها من التحدي والقوة ما يعجز عن مثله المخاطبون .
و عدم الإيمان بالرسالة بعد ظهور البينات والآيات يقتضي العذاب وقطع الأمل والرجاء فيمن لم تنفعه البينات لأنه سيكون صدودا واختلافا وظلما وبغيا بعد العلم كما نجد ذلك واضحا جليا في كثير من الآيات قال تعالى :(فَإِن زَلَلۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡكُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ) البقرة/٢٠٩ (كَیۡفَ یَهۡدِی ٱللَّهُ قَوۡمࣰا كَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِیمَـٰنِهِمۡ وَشَهِدُوۤا۟ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقࣱّ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ) آل عمران/٨٦ (وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ * وَءَاتَیۡنَـٰهُم بَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِۖ فَمَا ٱخۡتَلَفُوۤا۟ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۚ إِنَّ رَبَّكَ یَقۡضِی بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فِیمَا كَانُوا۟ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ ﴾ الجاثية /١٦-١٧
وقد اختلفت بينات الرسل والأنبياء كما وردت في الكتاب العزيز بحسب اختلاف البيئات وما اشتهر فيها من علوم ومعارف فكانت البينات من ذات الجنس ولكنها غالبة وظاهرة ومتحدية وربما كانت البينة ذات خاصية متفردة ولكن لا يمكن الاتيان بمثلها وتقف العقول حائرة ومعبرة عن عجزها وليس أمامها إلا التسليم والإذعان ويشير القرآن الكريم للبينات إجمالا بأن جميع الرسل والأمم قد جاءتهم البينات من ربهم ولا يوجد رسالة ولا رسول بلا بينة سواء ذكرت في القرآن عينا واسما أم لم تذكر قال تعالى :
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛلَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّمِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) إبراهيم/9 فالبينات كانت شاملة لكل أمة وقوم منذ نوح وهود وصالح وما بعدهم عليهم السلام ولكن من البينات ما ذكر ومنها ما سكت عنه الشارع واكتفى بالذكر العام ونتناول بعض بينات الرسل المذكورة في القرآن الكريم لتكون مثالا لما نتحدث عنه ( وبالمثال يتضح المقال ) ، فقد كانت بينة صالح عليه السلام الناقة التي خرجت من الصخرة كما هو مذكور في كتب التفسير ويكفي لبنها لقوم صالح على أن يكون لها شرب ولهم شرب تناوبا بينها وبينهم قال تعالى : (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَـٰلِحࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۖ قَدۡ جَاۤءَتۡكُم بَیِّنَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَـٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَایَةࣰۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِیۤ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوۤءࣲ فَیَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ) الأعراف ٧٣
(قَالَ هَـٰذِهِۦ نَاقَةࣱ لَّهَا شِرۡبࣱ وَلَكُمۡ شِرۡبُ یَوۡمࣲ مَّعۡلُومࣲ) الشعراء/١٥٥
( فَعَقَرُوا۟ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوۡا۟ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ وَقَالُوا۟ یَـٰصَـٰلِحُ ٱئۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَاۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ) الأعراف ٧٧
ولما كان التعامل مع هذه الآية العظيمة بالعناد والعتو والتكبر والتحدي والتكذيب كانت نهايتهم الهلاك والعذاب مع نجاة صالح عليه السلام ومن آمن معه كما ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ *وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) سورة هود66/68.
وقوله تعالى: ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) سورة الأعراف 78/79.
فجمع الله لهم في العذاب بين الصيحة في الديار وكأنها مواقع السكن في الجبال فناسبتها الصيحة والرجفة في الدار ولعلها مواقع الرعي والزرع وهي في السهول والله أعلم .
وذكر القرآن الكريم بينات موسى عليه السلام وهي آيات وبينات كثيرة دالة على نبوته لبني إسرائيل في تحريرهم من فرعون وقومه وقيادتهم نحو إقامة الدين هداية وولاية من خلال دخول بيت المقدس وقد كانت بينات موسى عليه السلام كثيرة منها ما هو لفرعون وقومه _وهي تسع آيات _ ومنها ما هو آيات بينات لقوم موسى من بني إسرائيل وهي كثيرة فالآيات التسع الخاصة بفرعون وقومه وردت في قوله تعالى : ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ النمل: 9-12وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ الإسراء:101
وفي سبيل تعيين هذه الآيات التسع نُورد ما قاله النسفي في التفسير متابعًا فيه الزمخشري صاحب الكشاف، قال -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ طه: 56 ما نصّه 🙁 وهي تسع آيات: العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل) .
ومن المعجزات التي أكرم الله بها موسى عليه السلام منحة له ولبني إسرائيل معجزة الحَجَر وتفجير الماء منه وتظليل الغمام عليهم وهم في التِّيه، ومعجزة المنّ السلوى يقول تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 57].
وكذلك ذكر القرآن الكريم بينات عيسى عليه السلام والتي وردت في العديد من الآيات نورد منها قوله تعالى : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ائِیلَ أَنِّی قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ) آل عمران/٤٩ ونكتفي بذلك في نماذج البينات السابقة للرسل قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كما قيل ( وكفى من القلادة ما أحاط بالعنق ) ولكن من المهم أن نشير إلى أن بينات الرسل السابقين كانت مادية منفصلة عن الكتاب المتضمن للأحكام المختلفة ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ) وغالبا ما تنتهي البينة والآية مع موت الرسول المبعوث بها وهذا يتناسب مع طبيعة الرسالات القومية وليست العالمية والمحدودة زمانا وليست الممتدة في الزمان حتى قيام الساعة والمتصفة بالخلود والخاتمية .
وعند كل رسالة سماوية منزلة غالبا ما يتم الطعن والتشكيك فيها من قبل المخالفين والكافرين في الرسول والرسالة وبطبيعة الحال فالتشكيك في أي منهما هو تشكيك في الآخر حتما فمثلا يتم تشويه صورة وشخصية الرسول المرسل بكونه ساحرا أو كاهنا أو مجنونا أو حالما أو متلقيا لما يقوله عن الآخرين من البشر (معلّم) وكل تلك الطعون تطال الرسالة كذلك وقد رد القرآن الكريم كل هذه الطعون ونفاها عن شخصية الرسول وطبيعة الرسالة ومنها قوله تعالى :
(بَلۡ قَالُوۤا۟ أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرࣱ فَلۡیَأۡتِنَا بِـَٔایَةࣲ كَمَاۤ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ) الأنبياء/ ٥
( ثُمَّ تَوَلَّوۡا۟ عَنۡهُ وَقَالُوا۟ مُعَلَّمࣱ مَّجۡنُونٌ) الدخان/١٤
(وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ یَقُولُونَ إِنَّمَا یُعَلِّمُهُۥ بَشَرࣱۗ لِّسَانُ ٱلَّذِی یُلۡحِدُونَ إِلَیۡهِ أَعۡجَمِیࣱّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِیࣱّ مُّبِینٌ) النحل/١٠٣
) إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولࣲ كَرِیمࣲ * وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرࣲۚ قَلِیلࣰا مَّا تُؤۡمِنُونَ * وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنࣲۚ قَلِیلࣰا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ الحاقة ٤٠-٤٢
﴿إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ *فَقَالَ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ یُؤۡثَرُ *إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَر﴾ المدثر ١٨-٢٥
وفي الوقت الذي نفى القرآن الكريم عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر والكهانة والجنون وعملية النقل والتعلم عن الآخرين كذلك نفي عنه أن يكون الوحي من تأليفه وإبداعه وأنه لم يكن يعلم عن هذه العلوم والمعارف والتشريعات قبل نزول الوحي إليه قال تعالى : (وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحࣰا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ) الشورى/٥٢ :(قُل لَّوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَیۡكُمۡ وَلَاۤ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِیكُمۡ عُمُرࣰا مِّن قَبۡلِهِۦۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ) يونس/١٦
وأما الحديث عن البينات القرآنية التي بعث الله -جل جلاله – بها النبي عليه الصلاة والسلام فهي كثيرة منها ما هو مادي محسوس في عصره ومنها ما هو خلاف ذلك وهو مرتبط بالكتاب العزيز ومستمر حتى قيام الساعة وشاهد على أن هذا الكتاب حق وصدق وأنه منزل من عند الله تعالى وليس من إبداع وابتكار وتأليف الرسول محمد عليه الصلاة والسلام _والحديث عن ذلك يطول _ وإنما دوره عليه الصلاة والسلام يتمثل في الآتي :
_ الوعي والحفظ
_ الحكاية والتبليغ
_ البيان والتفسير
_ التنفيذ والتطبيق العملي
قال تعالى:( ( وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔایَةࣲ قَالُوا۟ لَوۡلَا ٱجۡتَبَیۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَتَّبِعُ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّ مِن رَّبِّیۚ هَـٰذَا بَصَاۤىِٕرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ)الأعراف/٢٠٣
وكما هو الحال مع كل رسالة فإن القرآن الكريم تضمن بيناته وبراهينه التي تثبت بأنه من عند الله تعالى وأن هذه البينات تتكشف وتتجلي عبر العصور وتجددها بدءاً من العهد النبوي الذي تجلت فيه الكثير من البينات المادية وغير المادية وما بعد العصر النبوي حتى قيام الساعة فإن القرآن الكريم يحمل في طياته ما يجعله حجة على العالمين وهذا الذي سماه العلماء بالتحدي والإعجاز ويقصد به : ( الشيء الخارق للعادة المقترن بالتحدي وغير القابل للنقد والنقض والمعارضة) وقد تحدى القرآن الكريم عالمي الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن شكلا ومضمونا كما في قوله تعالى : ( قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضࣲ ظَهِیرࣰا) الإسراء/٨٨
ولما لم يستطيعوا ذلك انتقل معهم إلى ما دونه بأن يأتوا بعشر سور مثله كما في قوله تعالى 🙁 مۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِعَشۡرِ سُوَرࣲ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَیَـٰتࣲ وَٱدۡعُوا۟ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ) هود/١٣ ثم ظل التحدي لما دون ذلك بأن يأتوا بسورة مثله ( أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِسُورَةࣲ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ) يونس/٣٨ وأخيرأ لم يكن التحدي بأن يأتوا بمثله بل بأقل من ذلك على سبيل المقاربة لا المثلية والتطابق كما في قوله تعالى ( وَإِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبࣲ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُوا۟ بِسُورَةࣲ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ شُهَدَاۤءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ) البقرة/٢٣ أي أن يأتوا بسورة (من مثله) أي ببعضه وقريب منه وليس مثله كما تقدم وفي كل ذلك لم يستطع العرب قاطبة ومن تلاهم الإتيان بمثله أو ما يقاربه في البيان شكلا ولا فيما احتواه من الحقائق والمعارف والعلوم مضمونا ولأن المقام لا يحتمل التفصيل نبين أهم أنواع البينات القرآنية والبصائر الكتابية والبراهين الإلهية على أن هذا القرآن الكريم وحي من الله تعالى ولا يعتريه الشك والريب والباطل بحال 🙁 ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ ) البقرة/٢ ( لَّا یَأۡتِیهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِیلࣱ مِّنۡ حَكِیمٍ حَمِیدࣲ) فصلت/٤٢ وذلك نجمله فيما يلي من الفقرات :
1/ الإعجاز العلمي والمعرفي وقضايا الغيب :
من أهم أنواع الإعجاز في القرآن الكريم اشتماله على الحقائق الغيبية والأخبار والأنباء السابقة واللاحقة التي يستحيل العلم بها دون بيان من الوحي وفي ذلك يندرج القصص القرآني وما فيه من أخبار السابقين من الأمم والرسالات والحديث عن الأنباء المستقبلية وتحققها بعد عقود أو قرون وتناول الحقائق الغيبية التي يتوقف عندها العلم باعتبارها خارجة عن مجاله الذي يبحث في الظواهر المادية كالحديث عن الله تعالى واسمائه وصفاته والحديث عن عالم الملائكة والجنة والنار ومن أنواع الإعجاز كذلك الإعجاز العلمي والمعرفي كالحديث عن بدء الخلق والكون من سماوات وأرضين وما فيها من تفاصيل علمية وحقائق كونية مبهرة ونشأة الإنسان ووظيفته ومصيره كل ذلك يدل على أن النبي صلى الله علي وسلم لم يكن يمتلك هذه العلوم والمعارف الغيبية وليست مما يعرف بالتخمين والتخرص ولكن علم كل ذلك بتعليم الله له وتلقيه عن الله تعالى عالم الغيب والشهادة قال تعالى : ( ذلك من أنباء الغيب…. ما كنت تعلمها ) ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) ومن الكتب التي تناولت هذا النوع من الإعجاز كتاب (بينات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ) لفضيلة الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني – يحفظه الله –
2/ الإعجاز البياني والبنياني :
اشتهر العرب بالبيان والبلاغة والفصاحة شعرا ونثرا فجاءت المعجزة القرآنية الكبرى تتحدى العرب في أهم ما تميزوا به ولم يستطع أي منهم محاولة مجاراة البيان والبلاغة القرآنية بل شهد الجميع بأن هذا القرآن لا مثيل له ولا شبيه فيما أنتجه العرب من شعر ونثر بل القرآن الكريم له القدرة على إيصال المعاني المختلفة بوضوح وبلاغة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها وعندما سمع الوليد بن المغيرة _وهو أحد رجالات قريش _ القرآن الكريم قال مقولته المشهورة : (والله إن له لحلاوة. وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر. وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وإنه ليحطم ما تحته. وما يقول هذا بشر) رواه الحاكم .
وهذا النوع من الإعجاز هو الأشهر والأظهر في الكتابات القديمة والمعاصرة .
وأما الإعجاز البنياني فنقصد به بنية النص القرآني كله وتماسكه وترابطه وكذلك بنية كل سورة في داخلها وبين آياتها وطبيعة موضوعها والسياقات التي ترد فيها الآيات بما يدل على خيط ناظم بين الآيات والسور وجملة النص القرآني بما يشبه دقة وبنية الكون المنظور وأن أي اختلال فيه يؤدي لفساد المنظومة الكونية كلها ولهذا ربط النص القرآني بين مواقع النجوم والقرآن الكريم في ملمح دقيق لطبيعة الدقة والتماسك وعلاقة الأمر( الكتاب ) والخلق ( الكون ) بمصدر كل منها وهو الله جل جلاله قال تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم __ تنزيل من رب العالمين )
٣/ الإعجاز التشريعي والإصلاحي:
اشتمل القرآن الكريم على منظومة قيمية وتشريعية سامية ودقيقة ومتماسكة وشاملة لحياة الإنسان بما يحقق مصالحه في الدنيا والآخرة ويستجيب لوظيفته في الاستخلاف والعمران في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية بما يحير العقول عدلا وحكمة ورحمة وتيسيرا مما يصعب الاتيان بمثله من بشر مخلوق مهما بلغت قدراته وامكاناته الذاتية .
ومع شمول التشريعات وكمالها فقد اشتمل القرآن الكريم على المنهج الأقوم لإصلاح النفوس البشرية والمجتمعات الإنسانية وتهذيبها وتطهيرها وتزكيتها وتحقيق فاعليتها في العمران والاستخلاف المنشود في الأرض وذلك من خلال طريقة القرآن الكريم في الترهيب والترغيب والتشويق والتبشير والإنذار في توازن بديع يستحيل أن يكون من غير الله تعالى العليم الخبير بما خلق( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )
ونجد في القرآن الكريم تأثيرا عظيما وعميقا في النفس والعقل والوجدان البشري بما ليس في غيره لأنه صادر عن العليم الخبير قال تعالى : ( ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبࣰا مُّتَشَـٰبِهࣰا مَّثَانِیَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ) الزمر/23
4/ الإعجاز المادي المحسوس :
ذكرنا فيما سبق بأن الرسل السابقين كانت بيناتهم مادية فهل كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بينات مادية محسوسة عاشها الصحابة ورأوها ونقولها للناس أم أن بينة النبي عليه الصلام والسلام هي القرآن فقظ دون غيره كما يحاول البعض ترويج ذلك في الدراسات المعاصرة استنادا لقوله تعالى ( وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ فَظَلَمُوا۟ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا) الإسراء/٥٩
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِىٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) متفق عليه.
وغاية ما في الآية والحديث هو التأكيد على أن المعجزة الباقية والخالدة والأعظم للرسول عليه الصلاة والسلام هي القرآن الكريم لأنه لا يرتبط بحياة النبي عليه الصلاة والسلام ووجوده كما هو الحال مع بينات الرسل السابقين وفي الآية كذلك نفي لما يطلبه المعاندون للرسالة من معجزات مادية واستجابة الله لهم ثم ما يترتب على ذلك من هلاك وعذاب جماعي فالله لا يريد ذلك في الأمة المحمدية كما هو الحال فيما سبق من أمم وذلك لحكم عظيمة ليس هنا مجال تفصيلها كما أن هذه الطريقة في الاستدلال تهمل كثيرا من النصوص ولا تجمع بينها لتخرج بالصورة الكلية للمسألة والجمع أولى من الاهمال -كما هو مقرر في علم الأصول-
وعليه فإن نفي المعجزات المادية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذبه النقول الثابتة والمتواترة عن الصحابة رضوان الله عليهم وقد نقلها العديد من العلماء في مصنفاتهم التي تفوق الحصر يقول العلامة ابن قيم الجوزية ( ومعجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب وناقلوها أصدق الخلق وأبرُّهم ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن ) إغاثة اللهفان2/347
ومن أفراد المعجزات التي نصوا على تواترها ( الإسراء والمعراج وانشقاق القمر وشق الصدر وحنين الجذع واستجابة الكثير من أدعيته عليه الصلاة والسلام وشفاء المرضى بمسحه على مواطن وجعهم كرده عين قتادة وتكثير الطعام وجريان الماء من بين أصابعه بحضرة جمع غفير من الصحابة وغيرها من المعجزات المادية التي يمكن مراجعتها في مظانها ….) انظر نظم المنثور من الحديث المتواتر لمحمد بن جعفر الكتاني / وكتاب مائة معجزة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور/مصطفى مراد .
ومن أفضل الكتب المعاصرة التي تناولت مصدرية القرآن الكريم وأنه من عند الله تعالى لفظا ومعنى بعيدا عن شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام بالأدلة العقلية والنقلية والرد على الشبهات القائلة بأن القرآن من عند محمد عليه الصلاة والسلام أو تلقاه من غيره تعلما ونقلا عمن سبقه من أهل الكتاب ، هو كتاب -النبأ العظيم – للشيخ العلامة محمد عبدالله دراز الذي أجاد فيه وأفاد مفندا الشبهات ومفصلا مجالات الإعجاز المختلفة بما يغني عن الكثير من الكتابات .
ضرورة العناية بعلم البينات:
- تبدو أهمية العناية بعلم البينات لأنه العلم الذي يثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن هذه الرسالة حق وصدق وأنها منزلة من الله تعالى وليست كلام محمد عليه الصلاة والسلام فمن حق أي مكلف التساؤل حول مصداقية الرسالة وموثوقيتها والمطالبة ببراهينها الدالة على ذلك حتى يتم التفريق بين دعوى الرسل والأنبياء وبين دعوى المدعين من أدعياء النبوة الكاذبين :
والدعاوى إن لم تقيموا **عليها بينات أصحابها أدعياء
- وميزة بينات الرسالة الخاتمة أنها ليست مادية محضة ولا ترتبط بوجود الرسول عليه الصلاة والسلام وليست تاريخية تنتهي بزمان مضى بل هي تتسم بالديمومة والاستمرار وتتكشف مع الزمن والتقدم المعرفي فحقائق الكتاب المكنون باقية ومتجددة وتقوم بها حجة الله على خلقه حتى قيام الساعة بأن هذا الكتاب هو الحق ومن الحق نزل قال تعالى:
( سنريهم آياتنا في الآفاق..) والبينات الرسالية مهمة للداعية إلى الله تعالى وهي مقدمات الرسالة وسابقة على الأمر والنهي لمن لم يتلق الرسالة بالقبول كما أنها مفيدة في تثبيت وتقوية الإيمان وتعزيزه والدعوة للإسلام على بينة وبصيرة قال تعالى ( قل هذه سبيلي ….) ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله ) فكما أننا نتعلم علوم الإيمان والتوحيد والحلال والحرام كذلك لا بد من أن نتعلم علوم البينات والبصائر وتحظى بالعناية اللازمة .