
بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ” الروم/22
هذا مقال أتناول فيه بشكل مختصر مسألة الهوية تعريفا ومكونات وذلك أن سؤال الهوية من الأسئلة التي تشغل النخب الثقافية والسياسية في واقعنا المعاصر وفي ظل الدولة القطرية الحديثة خاصة بتحدياتها المختلفة ومشكلاتها المتنوعة وتزداد أهمية البحث في موضوع الهوية في ظل المجتمعات ذات الهويات المتعددة وكيفية تعريف الهوية الوطنية الجامعة في ظل الهويات الجزئية داخل القطر أو الهويات العابرة خارج القطر وقد أثبتت التجارب أن العجز عن صياغة وصناعة الهوية الجامعة بالتراضي والتوافق بين كافة مكونات المجتمع يؤدي لتحويل هذه الهويات إلى مهددات وطنية قابلة للانفجار و الاحتراب وسيادة ما سماه البعض (الهويات القاتلة) وتحاول هذه المقالة التعريف بالهوية الإرترية وطبيعة مكوناتها ومهدداتها ومستقبلها وهي محاولة تحتاج للمزيد من المناقشة والأخذ والرد وصولا للكمال المنشود والمرتجى لشعب يتطلع للاستقرار والعيش الكريم في وطنه ووضع نهاية لظاهرة الهجرة والتهجير المستمر عن وطن كان حلما فتحول كابوسا بفعل الاستبداد والدكتاتورية والطائفية الشوفينية المبطنة بالوطنية .
أولا: سؤال الهوية:
يعد سؤال الهوية من أعقد التساؤلات في ظل واقع متشابك سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا، وخاصة في حالة فرض نمط معولم ونقل تجارب بعيدة عن الواقع المحلي دون أن تخضع لعملية تطور طبيعي يجعلها مقبولة وقابلة للتطبيق، فقد نشأت ما يمكن تسميته بأزمة الهوية، أو ما أطلق عليه البعض بالهويات القاتلة، وأهم سؤال يواجه المكونات المختلفة هو سؤال:
1/_من نحن ؟
سؤال الهوية هو سؤال عن الذات الشخصية والجماعية، ومثاله حين يقال: من أنت؟ ومن أنتم؟ ومن نحن؟
“اسمي فلان ابن فلان” أو “نحن المجموعة الموصوفة والموسومة بكذا وكذا، ويمكن تقديم ما يثبت ذلك من وثائق رسمية أو غيرها. فيقال عنها هوية على الصعيد الفردي والجماعي.
وذهب بعض الفلاسفة للقول بأن الهوية هي الذات الشخصية والفردية بخصائصها المختلفة العقائدية والثقافية واللغوية والأحاسيس والمشاعر، وكل هذا يعتبر من ماهية الإنسان وهويته ، وفي سياقها الفردي تعتبر الهوية البحث عن الذات الفردية وقد تتعدد الهويات وليس بالضرورة أن تكون شيئا جامدا وغير متحرك، كما يمكن أن تكون متجددة ومتطورة، فقد تكون للشخص هوية بالاعتبار الاجتماعي والديني والوطني والوظيفي ، وفي كل ذلك يمكن أن يكون فيها الثابت والمتحرك والقديم والجديد والمحلي المنكفئ والخارجي الممتد، ويمكن أن يتقلب الشخص الواحد بين الأقلية والأكثرية دون أن يكون في موطن واحد طوال الوقت، فينتسب للأكثرية الدينية باعتبار والأقلية القومية باعتبار آخر، لأن الدوائر كلها متداخلة وليست منفصلة عن بعضها .
ثانيا الهوية الإرترية:
الهوية الإرترية الراهنة تشكلت على أساس الجغرافيا، أي الحدود الجغرافية (الدولة القطرية) التي حددها المحتل الإيطالي ضمن تفاهمات عديدة محلياً ودولياً، فظلَّ كل السكان الذين وجدوا في تلك الحدود وبغض النظر عن امتداداتهم التاريخية والدينية والثقافية والإثنية المعبرة عن تعدديتهم ينتسبون إلى المستعمرة الإيطالية (إرتريا)، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون هناك تنازع واختلاف حول الهوية الإرترية، وخصوصاً عندما يتم النظر للهويات الدينية والقومية والثقافية والتاريخية بعيداً عن منطق الجغرافيا الطارئ وطبيعة نشأة الدولة الوطنية الحديثة الوارثة للمحتل، والتي اعتمدت في تعريفها للهوية على العامل الجغرافي ابتداءً، لأنه العامل الذي يتم من خلاله الاعتراف الدولي بالدولة الحديثة، بغض النظر عن التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والرغبة المشتركة في العيش معًا، وغالبًا ما تصاحب هذا الوضع بعض المشكلات، والتي نجدها متكررة في العديد من البلدان وهي:
1/ مشكلة التعريف بالهوية الجامعة بكل أبعادها والتعبير عنها بشكل كامل في تعدديتها المختلفة، وينشأ عن ذلك صراعات عديدة وخاصة في ظل غياب الاعتراف المتبادل، أو محاولات الدولة فرض هوية متخيلة لدى النخبة الحاكمة، بعيدًا عن الواقع الاجتماعي والثقافي، مما يؤدي لصناعة الهوية بالإكراه، المتناقض مع التفاعلات الطبيعية لتشكيل الهوية طوعًا واختيارًا بين كافة مكونات المجتمع.
2/ مشكلة السيادة الوطنية لأن الدولة غالبا ما تكون بعد الاستقلال الصوري عن سطوة المحتل تابعة له ومنفذة لمطالبه ومحققة لمصالحه وملتزمة بثقافته وتقاليده وقد ينشأ صراع بين هوية النخبة ذات الثقافة الوافدة والمتحكمة في الدولة ومحاولات فرضها على المواطنين وبين الهويات الأصيلة للمكونات القاطنة في الدولة منذ القدم.
3/ مشكلة التنمية سواء من حيث الرؤية أو الإدارة للموارد أو العدالة في التوزيع للثروات أو ما ينتج عن الشروط التي تفرضها المؤسسات الدولية على الدول الفقيرة وغالبا ما تصاحب التنمية تحيزات واختلالات تؤدي لمشكلات وطنية شاملة.
4/ مشكلة الاستقرار السياسي وهي ناتجة في الغالب الأعم عن مشكلات الهوية ونقصان السيادة وغياب التنمية المتوازنة فتنتج الصراعات السياسية التي سرعان ما تنحدر للحروب المدمرة.
وقد بدأت مشكلات الهوية الإرترية في فترة تقرير المصير عندما رأت بعض المكونات الإرترية بأن هويتها أقرب لدول الجوار منها للهوية الجغرافية (الوطنية) الجديدة، فنشأت التحيزات الدينية والثقافية بتأثير من الكنيسة ونشأ حزب الانضمام لإثيوبيا في مواجهة تيار الكتلة الاستقلالية بقيادة الرابطة الإسلامية ، وغالبًا ما تكون هذه التحيزات خارج حدود الجغرافيا وخارج الحالة الوطنية بدوافع الحفاظ على الهوية الخاصة دينيًا وثقافيًا والخوف من مخاطر الذوبان ومهدداته، وقد كان لهذا الموقف المنحاز للخارج تجلياته الكبيرة على الوطن الإرتري كله بعدم الاتفاق الدولي على استقلال إرتريا، وبالتالي ربطها فدراليًا مع إثيوبيا، وما تبع ذلك من الثورة الإرترية وخسائرها البشرية والمادية لثلاثة عقود من الزمان، قبل أن تنال استقلالها الممهور بالدماء.
وللأسف الشديد فقد ظلت هذه الاختلافات مصاحبة للثورة الإرترية في كل مساراتها ومراحلها، ودفع الشعب الإرتري فاتورة هذا الخطأ التاريخي الذي ارتكبه جزء من مكونات المجتمع، كما ظلت التباينات الدينية والثقافية تتجلى في الكثير من الخلافات السياسية للتنظيمات الإرترية ومواقفها العامة وتحالفاتها العابرة للحدود كما هو الحال بالنسبة لتحالف الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا مع الجبهة الشعبية لتحرير تقراي وما نتج عنه من تصفية جبهة التحرير الإرترية وإخراجها من دائرة التأثير العسكري، وما ترتب على ذلك من اختلالات في البنية الوطنية الإرترية مستقبلاً حتى في ظل الدولة الوطنية، وهذا الاختلال في طبيعة الهوية الوطنية الإرترية الذي غابت معه معالم التعدد الديني والثقافي وبفعل النظام وأدواته القهرية هو أكبر مهدد للكيان الوطني بكامله، وهو الوقود الذي تتحرك به المجموعات الشوفينية ودعاة تقراي تقرنيا الذين لا يعترفون بأي مكون غيرهم.
ثالثا: ما هي مكونات الهوية الإرترية؟
الهوية الإرترية هوية مركبة ومتعددة وليست هوية واحدة، إذا ما تجاوزنا البعد الجغرافي المحدد للدولة القطرية بحدودها المعروفة، وأن من يسكن هذه الرقعة فهو إرتري، وأما الهوية بأبعادها الدينية والثقافية والقومية، فالأمر مختلف، حيث هناك تعدد ديني ولغوي وقومي، ولكي نعرف من نحن بهذه الاعتبارات، لابد أن نحدد مكونات الهوية الإرترية من خلال النظر للواقع الإرتري بعيداً عن الاسقاطات الأيديولوجية أو الرغبات الخاصة، وغالباً ما يتم تناول المكونات المعبرة عن الهوية بالنظر للجغرافيا والتاريخ المشترك والدين والثقافة واللغة والتحديات والمهددات والمصالح المشتركة، فعلى صعيد الجغرافيا هناك خريطة جغرافية للدولة ما بين خطوط طول وعرض معينة، وما بين دول مجاورة لها، وهو أبرز عنصر في الهوية، تم تشكيل الدولة القطرية عليه، ويتم التعامل الدولي من خلاله – كما سبق – وعلى صعيد الذاكرة التاريخية فإننا إذا نظرنا إلى جانب الاحتلال الإيطالي والبريطاني والإثيوبي فالشعب الإرتري بمختلف مكوناته دفع ثمناً غالياً لهذه الأنماط المختلفة من الاحتلال، بغض النظر عن بعض التمايزات التي تحصل للشعوب المحتلة، لأن المحتل يعمل على سياسة (فرق تسد)، حيث يقرب بعض الفئات ويبعد الأخرى لاعتبارات خاصة ومصالح معينة وليس حباً في المكونات المقربة.
وتعتبر مرحلة الثورة الإرترية بكل إشكالياتها (لمدة ثلاثة عقود) عاملاً رئيسًا في تشكيل الذاكرة الجماعية وربما كانت العامل الأقوى لأنها شكلت الانتماء للوطن والدفاع عنه، والشعور بالمخاطر المشتركة والمصير المشترك، ودحرت المحتل وهزمته شر هزيمة، وكان بالإمكان تطوير هذه الحالة من الشعور الجماعي لبناء الدولة وتحقيق التنمية والنهضة، ولكن فشلت قيادة النظام في تحقيق ذلك وحطمت معها آمال الإرتريين وتطلعاتهم بعد الاستقلال.
وتعد الثقافة المشتركة من العوامل الأساسية في تشكيل الهوية لأي شعب من الشعوب، ولكن في ظل التعدد الثقافي، ليس بالضرورة أن تذيب السلطة الشعب بثقافة واحدة قسرًا ولكن التحدي يكمن في كيفية استطاعة المجتمع بحكمة أن يعبر عن المشتركات الجامعة ثقافيًا، بعيدًا عن الإكراهات السياسية التي تمارس لفرض ثقافة واحدة.
ومن ناحية الهوية الدينية يمكن الحديث عن هويتين تشكلان الجانب الأكبر دينيا وهما الهوية الإسلامية والهوية المسيحية، وفي مرحلة من المراحل تم النظر للعامل اللغوي باعتباره وجهاً من وجوه التعبير عن الهوية الدينية، فكان الاعتراف في البرلمان الإرتري الأول بالثنائية اللغوية أي العربية والتقرينية باعتبارهما لغتين وطنيتين ورسميتين في البلاد، والمساس بهذه الجزئية أو الاخلال بها سيؤدي إلى الاخلال بالهوية الجامعة للشعب الإرتري، لأن الهوية الثقافية المركبة والمتعددة، متى ما تم اختزالها في بعض مكوناتها أدى ذلك إلى عدم الشعور للانتماء الجامع، وعادت الهويات الجزئية خصما على حساب الهوية الجامعة، ويبدأ معها التفكك بكل أبعاده بما أطلق عليه البعض بالهويات القاتلة.
وأما عامل المصالح ودوره في تعزيز الهوية فأمره لا يخفى، فكل مجتمع يقطن معًا فهو بحاجة للعيش المشترك وتبادل المنافع والارتقاء بالخدمات وتعزيز الأمن وتحقيق التنمية والنهضة وصولًا للاكتفاء والرفاهية، والعمل معًا لدفع المخاطر والتحديات الداخلية والخارجية، وبطبيعة الحال تنشأ مع الوقت شبكات كبيرة ومتداخلة من المصالح التي يحرص أصحابها على البقاء والعيش معًا، وهذا يساهم في تعزيز الهوية وتشكيلها وتماسكها.
ويمكن الإشارة إلى عوامل أخرى تساهم في تشكل الهوية أو تعزيزها، ومنها: الإنتاج والإنجاز الحضاري المتجدد للمجتمع، والفلكلور الشعبي، والفنون والآداب، والرموز والقيادات، والأعلام المجتمعية، وطبيعة النظام السياسي، وأنماط الحياة المختلفة (التفكير، الاهتمام، الملابس، الطعام، إلخ…)، والموروث المادي المتعلق بالمواقع الأثرية والمعمارية والمخطوطات والمقتنيات التراثية وغيرها.
وتشكل هذه المشتركات السابقة بمجموعها الهوية الإرترية التي وجدت مع الوقت وهي قابلة للتطور وليست جامدة بطبيعة الحال لأننا نتعامل مع ظواهر بشرية متحركة وسائلة بعيدًا عن التدخلات السياسية السلبية والتحيزات الأيديولوجية الضارة، ولكن تطورها في الاتجاه الإيجابي يتطلب وجود قيادة رشيدة ومنظومة حكم عادلة ترتقي بالشعب في مدارج الكمال الإنساني، كما تحتاج لشعب يعرف مصالحه ومهدداته ولا ينساق خلف كل من يبحث عن مصالحه الخاصة تحت عمليات التحشيد المختلفة دون وعي ولا بصيرة.
وخلاصة القول فإن الهوية الإرترية أو الشعب الإرتري هو الذي يسكن تلك الأرض المسماة (إرتريا) بحدودها المعروفة ويتميز بتعدد الثقافات واللغات والأعراق وقد عاش كافة أنماط المهددات والاحتلال بمختلف صوره دفاعًا عن أرضه وعن مقدساته، في سبيل الوصول إلى تحقيق الحرية والاستقلال، وبناء دولته الوطنية ذات السيادة، وتحقيق التنمية والعدالة، وهذا هو الشعب الذي عبر عنه القائد الرمز والشهيد الراحل / حامد إدريس عواتي في لحظته الأولى مع انطلاق شرارة الثورة معبرًا عن تطلعاته الكبرى في دولة الحق والعدل والحرية، وعندما وصلت الجبهة الشعبية إلى أسمرا ظن الشعب الإرتري قاطبةً بأن هذه لحظة الانتصار الجماعي للشعب الإرتري كافة، وليس لمكون من مكوناته أو حزب من أحزابه، لأنه بالفعل كان جهدًا لكل المكونات والطوائف والأحزاب والفصائل التي شاركت في مسيرة التحرر الوطني، وهي لحظة انتصار للفكرة الأولى المطالبة بالحرية والاستقلال، والتي كانت تطالب بها الرابطة الإسلامية في خطاباتها العامة والخاصة.
وقد تحقق الشطر الأول من المطالب العامة، وهو الاستقلال بميلاد الدولة الإرترية، ولكن غابت معالم الحرية السياسية وبناء مؤسسات الدولة المعبرة عن كل مكوناتها والمحققة للتوازن المجتمعي، وهذا هو ما يسعى الشعب الإرتري لتحقيقه اليوم بكل فئاته.
والدولة الإرترية تعاني اليوم من مخاطر كثيرة بسبب السياسات التي اتبعها النظام بعد الاستقلال، والتي اختزلت الهوية الإرترية في بعض مكوناتها، مع غياب للمشاركة السياسية وتحقيق التنمية العادلة، ومحاولات الدمج القسري لمختلف الهويات في هوية ثقافية واحدة، والتدخلات السافرة في شؤون الآخرين من دول الجوار، مما يؤثر سلبيا على البنية الداخلية الإرترية المنقسمة دائما حيال قضايا الإقليم ودول الجوار.
رابعا: مهددات الهوية الإرترية:
من خلال الحديث عن مكونات الهوية الإرترية تبين أن الهوية الإرترية هي هوية مركبة، ذات أبعاد مختلفة ومتعددة، وفيها الثابت الصلب والمرن المتحول، والقابل للتشكيل والتصنيع وهذا يتطلب تعاملاً عقلانيًا في التعاطي مع قضية الهوية الجامعة، والمعبرة عن الكل الوطني وأي تعامل غير مدروس بشأن الهوية قد يدخلنا في المهددات التي تمس الهوية الوطنية والاستقرار المجتمعي، ويؤدي إلى سيادة منطق الصراع المانع من التنمية بكل أبعادها ونشير هنا لمجمل مهددات الهوية الوطنية الإرترية والمتمثلة في الآتي:
1/ المهددات الداخلية:
الكثير من المجتمعات ذات التنوع الديني والثقافي والاجتماعي يمكنها أن تنجر إلى تحويل هذا التعدد إلى عوامل فرقة واختلاف هدام، ومهددات وجودية للمجتمع، إذا لم تعمل على إدارة التنوع بشكل حضاري، وتعزز عوامل التعايش السلمي بينها من خلال التعارف المنتج للتعاون والمثمر للعمران والاستخلاف، كما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات/ 13).
فالمجتمعات التي لا تسعى للتعارف المثمر للتعاون، نجدها غير قابلة للاعتراف بالتنوع، وتسعى جاهدة للتهميش والاقصاء والإلغاء للآخر، وينتج عن ذلك الاحتراب الداخلي وغياب الاستقرار، وبالتالي تهديد الوجود الجمعي، وكل ذلك بسبب التعصب الديني والقبلي والجهوي.
وبطبيعة الدولة الحديثة، فإن النظام السياسي يساهم بشكل كبير في طبيعة العلاقات البينية في المجتمع، تعايشًا وسلامًا، أو تنافرًا واحترابًا، من خلال السياسات العامة والممارسات اليومية، وللأسف الشديد، فإن النظام السياسي في إريتريا، بعد التحرير، كرس واقعًا سلبيًا، من خلال حالة الاستبداد، وغياب المشاركة العامة، والهيمنة الأحادية، ثقافيًا وسياسيًا، وانتهاك الحقوق والحريات وتشريد الكثير من أبناء الوطن بحثا عن الحياة الكريمة خارج حدود الوطن، رغم المخاطر والتحديات التي تواجههم. ومن أكبر هذه التحديات الداخلية النظام الدكتاتوري القمعي وسياساته، فهو المسؤول المباشر عن حماية أمن وسلامة الوطن والمواطنين وتأتي بعدها القوى السياسية والمجتمعية التي تساهم بشكل أو آخر في تهديد الأمن الداخلي، عن طريق تبنيها لسياسات ومواقف خاطئة تجاه القضايا الوطنية.
2/ المهددات الخارجية:
كان الاحتلال الخارجي من أكبر المهددات التي تواجه الوطن الإرتري فيما عُرِف بالاستعمار ( الاستخراب ) الإيطالي والبريطاني الذي امتد لما يزيد عن نصف قرن من الزمان، ولكن بعد خروج المحتل الغربي ظلت إثيوبيا المجاورة أكبر مهدد للشعب الإرتري ودولته حيث خاض الشعب الإرتري معها حرباً طويلةً دامت ثلاثين عامًا، قدَّم فيها المهج والأرواح طلبًا للحرية والكرامة حتى نال استقلاله وأعلن عن دولته، ومع ذلك تظل الأطماع والتهديد الإثيوبيَّ قائما تحت ذرائع عديدة، سواءً من الدولة المركزية أو بعض مكوناتها، وخاصةً في ظل الشعور الإثيوبي بأحقيتهم في أن يكون لهم معبرًا بحريًا خصماً بطبيعة الحال على الأراضي الإرترية ولا يمكن مواجهة هذه المهددات الإثيوبية إلا من خلال شعبٍ موحدٍ ودولةٍ مسؤولةٍ عن مواطنيها وقائمةٍ بمهامها ووظيفتها الوطنية دون تهميشٍ أو اقصاءٍ أو مظالم.
ولعل من المهم الإشارة إلى أن التدخل الإرتري في الصراعات الداخلية الإثيوبية يزيد من التهديد الإثيوبي مستقبلا، مهما كانت مسوغات هذا التدخل، والمطلوب إقامة علاقات متوازنة مع كافة دول الجوار بعيداً عن التجاذبات والصراعات المحلية والإقليمية.
وهذا الكلام لا يقلل من الأطماع الخارجية الدولية، والتي لا زالت تسابق الزمن في محاولات التمدد والنفوذ في البلدان الإفريقية، ومنها إرتريا التي تتمتع بموقع استراتيجي هام على البحر الأحمر غالبا ما يكون هذا التأثير عبر العلاقات مع النظام القائم، أو بالتنسيق مع الدولة الإثيوبية، تجنبًا للمواجهة المباشرة مع شعوب المنطقة.
خامسًا: مستقبل الهوية الإرترية:
الحديث عن المستقبل لا يكون رجمًا بالغيب ولا كلامًا بالتشهي والرغبات والعواطف، ولكن يجب أن يستند على حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا، وطبيعة العلاقات المجتمعية والسياسية، وبما أننا نتعامل مع حالة إنسانية والسلوك الإنساني قابل للتنشئة والتعديل والتغيير والتطوير، فإن مستقبل الهوية الإرترية الجامعة والمعبرة عن التنوع الذي سبق الحديث عنه يتوقف على وجود الرغبة والإرادة المشتركة لبناء وطن يسع الجميع ويعبر عنهم وهذه المسؤولية تقع بشكل مباشر على السلطة السياسية الحاكمة لأنها تملك القدرة على فرض خياراتها وتحت سلطانها الموارد البشرية والمادية، ويمكنها صناعة المناخ الذي يعمل على توحيد المجتمع بكل فئاته الثقافية والاجتماعية والسياسية، بعيدًا عن منطق “ما أريكم إلا ما أرى” والعمل على صناعة هوية واقعية تعبر عن الشعب بكل مكوناته، دون اللجوء إلى أدوات الإكراه السلطوي ، وعليه فإن مستقبل الهوية الوطنية الجامعة للشعب الإرتري يجب أن يستصحب فيه المعطيات التالية:
1/ التاريخ المشترك للشعب الإرتري طوال نضالاته ضد المحتلين قديمًا وحديثًا، وخاصة تاريخ الثورة الإرترية في مواجهة المحتل الإثيوبي، فإن ذلك يشكل ذاكرة مشتركة في عقل ووجدان الشعب الإرتري، ويمكن البناء عليها في المسيرة الوطنية في مواجهة التحديات والمخاطر المستقبلية، بما يعزز فكرة المصير المشترك.
2/ التأكيد على وحدة الأرض والشعب الإرتري بكل مكوناته، وعدم التفريط في ذلك، والابتعاد عن الخطابات التفتيتية والتفكيكية، وهذا يتطلب بناء نظام سياسي يقوم على التراضي والتوافق الوطني، ويحقق المشاركة السياسية لجميع المكونات، بعيدًا عن التهميش والإقصاء والإلغاء والتغييب ومحاولات الهيمنة الأحادية لأي طرف كان .
3/ الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية واللغوية واعتبار ذلك في السياسات والبرامج والمواقف، والاقرار باللغتين العربية والتقرينية لغتين وطنيتين ورسميتين في البلاد دون أن يكون ذلك تقليلًا من شأن اللغات الإرترية الأخرى، وحق الناطقين بها في الحفاظ عليها والتعبير عنها ثقافيًا وتعليميًا.
4/ الهوية بمفهومها العام قابلة للصناعة في مكوناتها المرنة وليست الصلبة ، وذلك من خلال التفاعل الطبيعي بعيدًا عن الإكراه السلطوي لفرض هوية معينة على الأفراد أو المجموعات ، و تساهم بطبيعة الحال مؤسسات الدولة والمجتمع من خلال التعليم والإعلام والثقافة والرياضة والمؤسسات الدينية والاجتماعية في صناعة الهوية مع التركيز على بناء الهوية الوطنية المشتركة التي تضم جميع أبناء البلد بغض النظر عن خلفياتهم وانتماءاتهم الثقافية والدينية، ويجب ملاحظة أن موضوع الهوية له علاقة كبيرة بموضوع الأمن القومي للبلاد.
5/ الخارطة الإرترية وبحكم موقعها الجغرافي تتداخل مع دول الجوار تداخلًا يشكل امتدادات طبيعية لبعض مكونات إرتريا، ويمكن أن يكون هذا فرصة إذا تم التعامل معه بوعي ومسؤولية، كما يمكن أن يكون تهديدًا للهوية إذا تم توظيفه بشكل سلبي، ومن المؤسف أن نرى تدخلات السلطة السياسية الحاكمة في إرتريا وتدخلات بعض المكونات المجتمعية في الصراعات الداخلية للدولة الإثيوبية ، وهذا يمثل إحدى المظاهر السلبية والخطيرة لتهديد الهوية الوطنية من منظور الهوية المشتركة ، ومن المهم أن يتم التعاطي مع الجوار بمنطق المصالح المشتركة في ظل تعدد الهويات الوطنية لكل قطر والاستفادة من الهويات العابرة للحدود لصالح الأمن القومي والمصالح العليا للبلاد وليس العكس .
6/ وتحتاج الدولة والمجتمع لميثاق جامع يحدد الحقوق والحريات وطبيعة النظام السياسي ومؤسسات الدولة وهياكلها المختلفة وطبيعية العلاقات البينية لهذه المؤسسات كما تحدد طبيعة العلاقات بين المواطنين والسلطة القائمة ويتم من خلال هذا الميثاق الاتفاق على مكونات الهوية الوطنية من دين وثقافة ولغة رسمية وجامعة وتاريخ مشترك وغير ذلك مما تتضمنه المواثيق المعروفة بالدستور ولا بد أن يكون محل توافق غالبية المجتمع إن لم يكن محل إجماعهم لأنه الأساس الذي ستلتقي عليه مكونات المجتمع وتحتكم إليه عند النزاع وتتفرع عنه كافة القوانين وهو أساس لشرعية النظام السياسي ومشروعيته .
وختاما فإن الحديث عن الهوية يحتاج لمزيد من الدراسة والبحث والحوار الهادف بين مكونات المجتمع ونخبه الثقافية والسياسية والاجتماعية وهذه الورقة محاولة لإثارة النقاش حول ذلك ولكنها بالطبع ليست حاسمة لجدل الهوية ولا قاطعة للنزاع حولها .
والحمد لله رب العالمين .
يوجد 2 تعليقات
فيصل الحاج
كان عصر الملكية سائدًا إلى أن جاءت مفاهيم القومية والهوية عبر أوروبا، حينها تم تفكيك امبراطوريات أوروبا العتيقة والكبيرة واستبدالها بدول قومية عرقية/دينية مصغرة، وتبعهم باقي دول العالم في ذلك.
لكن من المصادفات الغريبة أن استقلال إرتريا جاء متأخرا عندما بدأت أفكار القومية في الاضمحلال واستبدالها بالعولمة والاقتصاد العابر للقارات.
اكبر دليل على ذلك انه في الماضي كانت هجرات الارتريين تقليدية، اي الى الدول التي نشترك معها في الدين او القبيلة الخ، بينما الهجرات الحديثة اغلبها ان لم يكن جميعها هجرات اقتصادية بحتة.
ولذلك، قبل ان تتمكن ارتريا من التقاط انفاسها وبناء هوية قومية، ستضطر في النهاية لعمل قفزة نحو مفاهيم العصر الحديث المحكومة بالعولمة وسيولة السيادة والاقتصاد المفتوح العابر للقارات وظهور المواطن الاقتصادي بعيدا عن مسائل الهوية التي طغت سابقا على فكر جيل التحرير.
صلاح عبي
هل من المقبول الحديث أو استخدام مصطلح الهُوية لوصف العلاقات بين الأفراد أو المجتمعات المختلفة ؟ فالهُوية هي نسبةٌ للضمير هُوَ، و بالتالي نستطيع التحدث عن هُوية الفرد و ليس عن هُوية أكثر من فرد . و على ذلك يتوجب البحث عن مصطلح آخر بديلاً ل (( الهوية الوطنية )) ، و أفضل بديلٍ عندي هو مصطلحات (( الإرتريوية ، السودانوية و والصينوية … الخ )) .
هذا ما أراه إلا إذا اتفقنا مسبقا على استخدام السائد من الاخطاء في فهم المصطلحات .
السطور السابقة هي لتفعيل الحوار حول مقال حسن سلمان .