بقلم الدكتور/ حسن سلمان
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأقام ملكه على أساس الحق والعدل وميزان القسط وحرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده أنزل الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فمن أراد مخالفته عمدا وسلك غير سبيله قصدا فقد ضل ضلالا بعيدا ومن بذل جهده في التماس الحق والصواب ثم أخطأه دون إرادة سبيل أهل الغواية والهوى فقد يكون مأجورا في اجتهاده مغفورا له دون أن يكون قدوة لغيره فيما أخطأ فيه لأن الحجة الرسالية تقوم على الخلق بالوحي المنزل وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي المنهجية والسبيل المطلوب تحقيقا للحق والعدل قال الإمام الذهبي رحمه الله :
” وَلَوْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ – مَعَ صِحَّةِ إِيْمَانِهِ، وَتَوَخِّيْهِ لاتِّبَاعِ الحَقِّ – أَهْدَرْنَاهُ، وَبَدَّعنَاهُ، لَقَلَّ مَنْ يَسلَمُ مِنَ الأَئِمَّةِ مَعَنَا، رَحِمَ اللهُ الجَمِيْعَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.” انتهى ، من “سير أعلام النبلاء” (14/376) ،قال تعالى:(قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ) يوسف/108
ويقول ابن القَيِّم رحمه الله: “والله تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضل حِلْيَة تحلَّى بها الرجل، خصوصًا مَن نصَّب نفسه حكمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 15]، فوَرَثة الرسول صلى الله عليه وسلم مَنصبهم العدل بين الطوائف، وألاَّ يَميل أحدُهم مع قريبه وذَوِي مذهبه وطائفته ومَتبوعه، بل يكون الحقُّ مطلوبَه؛ يَسير بسيره، ويَنزل بنزوله، يَدين العدل والإنصاف، ويُحكِّم الحُجَّة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو العلم الذي قد شمَّر إليه، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه، ولا يَثني عِنانَه عنه عذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه لومةُ لائمٍ، ولا يَصدُّه عنه قولُ قائلٍ”؛ إعلام الموقعين/3_94_95
في الوقت الذي بلغ فيه حصار الدعوة الإسلامية ودعاتها مبلغا كبيرا في العديد من البلدان الإسلامية وبإشراف ومتابعة من الغرب المهيمن عالميا وتم تصنيف الكثير من جماعات العمل الإسلامي المختلفة ووصمها بالإرهاب وملاحقتها واعتقال رموزها الدعوية والعلمية في ظل هذا الوضع المأزوم تظهر لنا مجموعات دعوية من مختلف التوجهات الفكرية والمذهبية لتخوض في موضوعات لا علاقة لها بنصرة الدين وأهله وكسر أعدائه بل هي مساهمة بوعي أو بغير وعي في تشتيت الحالة الإسلامية وضربها من داخلها وذلك من خلال مسارات متعددة كانت أولها التشكيك في السنة النبوية وعدم حجيتها أو التشكيك في مصادرها وزعزعة الثقة برموزها الناقلة لها كالإمام البخاري وغيره ثم التشكيك في منهجية التفكير والنظر والاستدلال بنقض أصول الفقه ورموزه كالتشكيك في الإمام الشافعي رحمه الله وكتابه الرسالة واعتباره حجر عثرة أمام تطور وتحديث العقل المسلم ثم زادت الهجمة مؤخرا من خلال الصراع بين الأشاعرة والسلفية وخاصة بعد مؤتمر الشيشان الذي استبعدت عنه المدرسة السلفية بحجة خروجها عن مسمى أهل السنة والجماعة وتمت رعاية هذه التحركات من حكومات ودول تقوم بأدوار مشبوهة بدعم غير محدود ويأتي كل ذلك في سياق التطبيع مع الكيان الصهيوني ومظلته الدينية المزعومة( الديانة الإبراهيمية ) وليس بعيدا عن ذلك ما رأيناه مؤخرا من هجوم وتشكيك في رموز حديثية وفقهية كالإمام النووي وجعله ساحة مواجهة بين تياري الأشاعرة والسلفية بدلا من أن يكون شخصية جامعة كما هو حاله كسائر أهل العلم الذين وضع الله لهم القبول في الأرض.
إن هذه الصراعات في هذا التوقيت بالذات لا تخدم البحث العلمي المجرد ولا تحرير محل النزاع في المسائل العلمية المختلفة بقدر ما تساهم في التشكيك في ثوابت الدين ورموزه العلمية في وقت يحشد أعداء الإسلام كل إمكاناتهم لفرض الإلحاد عقيدة كونية والشذوذ والمثلية سلوكا معولما وتفكيك الأسرة من داخلها برنامجا أمميا ومواجهة الإسلام ورموزه وتشويه مقدساته ( رسالة ورسولا ) توجها رسميا للعديد من البلدان بحجة حرية التعبير والكلمة وبالتالي فإن ما نشاهده من صراعات هي خارج أولويات المرحلة وخطابها المطلوب إن لم يكن ذات الخطاب ممهدا للهجمة على الإسلام بوعي أو بغيره أو نوعا من حالة تشتيت الجهود والطاقات عما هو واجب الوقت في حالة أشبه بنظرية الإلهاء التي تمارسها القوى المهيمنة عالميا على من هم تحت نفوذها وتخشى من وعيهم وتحررهم.
ومن خلال تتبع ظاهرة التوظيف الديني للجماعات من قبل الأعداء فقد رأينا كيف تم محاربة الأمة ومكونها الأساس( أهل السنة) من خلال توظيف الحالة الطائفية الشيعية التي ظلت تقاتل بجانب العدو الصليبي في كل الساحات العربية والإسلامية وعامل تخويف للدول المجاورة لها حتى تم تحقيق السيطرة الكاملة على المنطقة وكذلك رأينا مواجهة التيار الجهادي بحشد وتوظيف كافة اتجاهات العمل الإسلامي الدعوية والعلمية والسياسية وكانت تظن بأن التماهي مع تلك الحرب سيفتح النوافذ للتيارات السلمية فلما ضربت الحركة الجهادية ولم تعد تشكل خطرا حقيقيا بدأ الدور على بقية مكونات العمل الإسلامي وهنا تم توظيف الحالة المذهبية والطرقية (الأشاعرة- الصوفية) في مواجهة السلفية العلمية والدعوية وتيارات العمل الإسلامي السياسي وفتحت المنابر كلها للموجة الجديدة في تحالف غير خفي وتمويل معلن واحتواء سياسي مكشوف حتى رأينا مؤسسات علمية عريقة وقيادات علمية مشهورة تصمت عن الترويج للديانة الإبراهيمية الجديدة ولوازمها من التطبيع مع الكيان الصهيوني والصمت التام عن الانتهاكات التي تطال الشعب الفلسطيني وكافة المقدسات دون نكير منهم .
وفي ظل هذه الهجمة الكبرى على أمة الإسلام فإنه يقع على عاتق العلماء والمفكرين ونخب الأمة المختلفة ضبط بوصلة الحراك العام للأمة وتعزيز الوحدة في المشتركات الدينية الكبرى وحشد الطاقات في مواجهة الاستبداد الداخلي المتساند مع العدوان الخارجي وخاصة بين مكونات أهل السنة بمفهومها العام (السلفية والأشاعرة والماتريدية) وهذا هو الوضع الطبيعي تاريخيا كما تثبته النماذج العلمائية مثل( شيخ الإسلام ابن تيمية و العز بن عبد السلام ) وكثير من قادة الجهاد والفتح الإسلامي ( نورالدين / صلاح الدين ) كانوا ينطلقون في مواجهة الأعداء من مفهوم الأمة المسلمة الواحدة وتعزيز الأخوة الدينية القائمة على الإسلام وأصوله قال تعالى:( فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ فِی ٱلدِّینِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ)التوبة/١١ وليس تكريس الروابط القطرية أو المذهبية أو الطائفية أو إحلال أخوة المنهج بديلا عن أخوة الدين فكل ذلك يتنافى مع ما أمر الله به من إقامة الدين وعدم التفرق فيه (شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤۖ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِینَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَیۡهِۚ ٱللَّهُ یَجۡتَبِیۤ إِلَیۡهِ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَن یُنِیبُ) الشورى/١٣.
ولقد رأينا كيف شغلت الجماعات والروابط والهيئات العلمية بالردود والمقالات والبيانات في أمر لا يعد من أولويات المرحلة وضروراتها ولكنها ملهاة قد يكون مقصود بها حرف البوصلة عن المعارك الحقيقية للأمة فأضاعت بذلك أوقاتا وجهودا وطاقات وموارد لو بذلت فيما هو أنفع للأمة وحاجاتها الراهنة لكان أنفع وأجدى.
وبطبيعة الحال فليس المقصود من الحديث التهوين من البحث في المسائل العقدية والعلمية والتي يمكن إدارة النقاش حولها في سوح العلم ومنابره المختصة بقصد التحرير والتحقيق والتدقيق وصولا للحق والصواب بعيدا عن تحويل هذه المسائل الدقيقة لنقاشات عامة ضررها أكبر من نفعها بالنسبة للتدين العام في أفراد الأمة وجماعاتها لأن حاجة الأمة لتمس قضاياها الوجودية أكبر من الخوض في تفصيلات نظرية لا يبنى على كثير منها أمر عملي وهو مما كرهه أهل العلم حيث قال العلامة الشاطبي في كتاب الموافقات وفي المقدمات الأصولية عنده (المقدمة الخامسة) -كراهة الخوض فيما لا يبنى عليه عمل –:( كل مسألة لا يبنى عليها عمل ، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي ، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا ….. وأن تتبع النظر في كل شيء وتطلب علمه من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم …. فإذا ثبت هذا فالصواب أن ما لا يبنى عليه عمل غير مطلوب في الشرع)بتصرف/ تهذيب الموافقات 37-38 / محمد بن حسين الجيزاني.
وخلاصة القول فإن حاجة الأمة إلى وحدة الصف وجمع الكلمة على قضاياها الكبرى في هذه المرحلة التاريخية الحرجة أهم وأولى وأوجب من الصراعات الهامشية وإثارة البلبلة ونبش الخلافات التاريخية ومهاجمة رموز الأمة وعلمائها والخوض فيما لا يبنى عليه عمل مؤثر في نهضة الأمة وتحررها وتعزيز هويتها وإعادة سلطانها وولايتها العامة قياما بالحق والعدل الذي أمر الله تعالى به قال تعالى:(وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ۚ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡوَ ٰنࣰا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ) آل عمران/١٠٣
والله الهادي إلى سواء السبيل.