الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وبعد :
فإن الناظر لحال الأمة اليوم يدرك تمامًا مستوى الضعف الإيماني الذي وصلت إليه، وهي ترى وتشاهد وتتابع حال إخوانها وأخواتها في غزة وفلسطين يمارس فيهم أبشع صور الإبادة والتنكيل، ولا تحرك ساكنًا.
إلا من رحم الله، وقليلٌ ما هم.
والأمَّة بهذا الحال تكون :
– مخالفة لأوامر ربها عز وجل؛ مخالفة صريحة لا لبس فيها ولا خلاف؛ قال تعالى : (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) ([1]).
– مخالفة أيضا لقوله سبحانه : {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين} ([2]) .
– عاصية غير مطيعة لقول رسول الله ﷺ : (ما من امرئ يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وتُنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته.” ([3])، وقال ﷺ : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة.) ([4])
والأدلة في وصف حال الأمة، وبيان ضعفها وعصيانها، لا يخفى على أحد.
وقد بلغ عدد الشهداء في غزة من الأطفال والنساء والشيوخ إلى وقت كتابة هذا المقال المتواضع ثلاثة عشر الف شهيد، ناهيك عن قطع الكهرباء والماء والغاز وكل مكونات الحياة، ولا يشك أحد في كونهم مسلمون موحدون، يجب لهم ما يجب لكل مسلم.
ويزداد الألم شدة عندما يكون عدد إخوانهم وأمتهم الإسلامية يقترب من ملياريِّ نسمة في (57) دولة تمتلك جيوشًا وأسلحةً ومالاً، فأين دور هذه الشعوب ؟ ما الذي دهاها ؟ أين علماؤها ؟ ما الذي أصابهم ؟ كيف عجز أولئك القوم من أن يفتحوا معبر رفح ؟!! أين دور دول الطوق (لبنان والأردن وسوريا ومصر؟)
الإجابة على هذه التساؤلاتِ جليَّة واضحة في وصف الرسول ﷺ لحال أمتنا وصفًا دقيقًا حين قال : ” (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا).
فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟
قَالَ : (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ).
فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟
قَالَ : (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) ([5]).
في هذا الحديث العظيم أشار الرسول ﷺ إلى ثلاثة أسباب لضعف الأمة الإسلامية
أولاً / حب الدنيا .
ثانيًا / كراهية الموت .
ثالثًا / نزع المهابة من قلب العدو .
ومن لطائف الحديث أنَّه لم يُشِر الرسول الكريم ﷺ إلى هذه الأمور إلا من أجل أن نحذر منها، ونوجد لها حلاً شرعيًّا وعلاجًا نافعًا، فتأمَّل !.
وثمَّةَ وصف آخر يتضمَّنُ توضيحًا أكثر، وهو من دلائل آخر الزمان، وفيه يقول ﷺ : (إذا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) ([6])
ففي هذا الحديث ذكر ﷺ توضيحًا أعمق، وخلاصته انشغال الأمة بأمور :
1-المبايعة بالعينة المحرمة، وهي مثال ظاهر، بيْدَ أن الإشارة إليها، تلميحٌ إلى جميع التعاملات الربوية .
2-الانشغال بزراعة الأرض، ويندرج تحته الصفقات التجارية، والمشاريع، وغيرها.
3- ترك الجهاد .
والأمران الأولان يمثلان (حب الدنيا) المشار إليهما في الحديث السابق .
والسبب الأخير يشير إلى (كراهية الموت) .
وإليكَ حديثًا ثالثًا أضاف أمرين مهمين يمثلان سببًا رئيسيًّا في ضعف الأمة، وهو قوله ﷺ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ) ([7])
ففي الحديث إلى :
● الأمر بالمعروف
● النهي عن المنكر
وعقوبة تركهما يتمثَّلُ في أمرين :
●تسليط شرار الخلق من الحكام وغيرهم (ورد في آثار أخرى)
●منع استجابة الدعاء .
ومن تتبع واستقرأ كتاب الله وسنة رسوله ﷺ يجد أسبابًا كثيرة في توالي العقوبات تلو العقوبات على هذه الأمة؛ بسبب حبها للدنيا، وبعدها عن دينها، وارتكابها للمخالفات الشرعية.
وقد أخبرنا ربنا أنه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان أبدًا، قال تعالى : (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ) ([8]) وقال : (: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ([9])
وفي غزوة أحد استشهد (70) صاحبيًّا، وكاد الرسول الكريم ﷺ أن يٌقتل بمخالفة واحدة فقط !!! والسبب حب الدينا أيضا، وفي التنزيل الحكيم : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ([10])
وهذا يعطيك مؤشرًا قويًّا إلى خطورة المعصية التي سببها حب الدنيا، فكيف إذا انتشر في الأمَّة الشرك والربا والزنا وموالاة الكفار … الخ
وحسبكَ أن تتأمَّلَ إلى هاتين الآتين من سورة التوبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(٣٨) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ([11])
فهنا وعيد شديد بعذاب أليم، ثم الاستبدال بالغير – عياذا بالله – والسبب حب الدنيا وكراهية الموت، ولذلك تتابعت العقوبات والابتلاءات مؤخرًا في أمتنا، بالزلازل والفيضانات والحروب وغيرها لأسبابٍ كثيرة، في صدارتها : ركون الأمة إلى الدنيا، ونسيانها الآخرة.
من خلال ما سبق : تبين أن حب الدنيا وكراهية الموت، هو السبب الرئيس في غفلة الأمة، وعدم مبالاتها بما حدث ويحدث لغزة وفلسطين، بل في كل مكان يُستضعف فيه المسلمون، إلا من رحم الله .
والمحزن المؤلم أن هذا المرض قد أصاب معظم علماء الأمة الإسلامية، – ويؤسفني أن أقول ذلك – حيث إن الأمة الإسلامية تنعم بجامعات عريقة في دولها، وفي كل جامعة الآلاف من العلماء وطلبة العلم الشرعيين الذين درسوا الكتاب والسنة، ويعلمون حكم النصرة، وحكم الجهاد، ومتى يكون فرض عين، ومتى لا يكون، وغيرها من المسائل الجهادية الدقيقة.
فأين دورهم ؟ أين حراكم الشعبي والسياسي والشرعي؟!!! .
وهم يقرأون ويُقرؤن قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) ([12])
وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ([13])
فالعلماء والدعاة :
● يدركون جيِّدًا خطورة السكوت والكتمان.
● ويعلمون شنيعة المجاملة والمداهنة في الدين .
فلمَ لم تتحرك قلوبهم لهذه الأدلة ؟
لقد عاش علماء الأمة – ولا أعمم – في العقود الماضية في ترف ملفت، من خلال :
● استلام أعلى الرواتب.
● اقتناء أعلى المناصب.
● العيش في أرقى المساكن .
● وربما حصل بعضهم على المكافآت المجزية .
● وارتبط بعضهم بوظائفهم ارتباطا لا يمكنهم الخلاص منه .
ولهذا أو ذاك : تحقق في بعضهم المثل (أطعم الفم تخجل العين) ، وهذا الترف قد حذر منه القرآن الكريم وكان سببا لهلاك الأمم السابقة ، قال سبحانه :
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ ([14])
وقوله : ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ ([15])
وكفى واعظًا بقول رسولنا الكريم ﷺ :
(مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ) ([16])
فإذ كان هذا حال العلماء، فمن باب أولى غيرهم من الشعوب، والعامة، والعسكر، والشرط، والأطباء، والتجار، والمهندسين، وغيرهم .
فإلى الله المشتكى …
والحديث عن العلاج وإيجاد الحلول سهل بحمد الله ويسير، خلاصته مذكور في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وألخصه هنا في نقاط موجزة تذكيرًا لعلماء الأمة وشعوبها /
● التوبة إلى الله تبارك وتعالى من حب الدنيا وكراهية الموت.
● الحذر الشديد من تعلق القلب بحب الدنيا.
● وجوب مجاهدة النفس حتى يكون ما عند الله أحب إلينا من الماء البارد .
● على العلماء أن يدركوا أنهم من الحكام ومن أولي الأمر لهذه الأمة.
● أن يستعدوا لقيادة الجهاد في سبيل الله قبل أن تبتلى الأمة بشباب قليلي العلم والحكمة، فيعقون في التكفير الذي ينتهي إلى التفجير .
● عليهم الاستعداد للشهادة في سبيل الله وتحديث النفس بذلك مرارا.
● عليهم توحيد صفوفهم، وجمع كلمتهم والتخفيف من الخلاف قدر الإمكان .
● من واجبهم القيام بنصح الحكام وتحذيرهم من غضب الله .
● تحريض الشعوب للجهاد في سبيل الله .
● تقديم حلول ومبادرات لمعركة الطوفان، وإنقاذ المسلمين من ويلات القصف.
اللهم رد علمائنا إليك ردًا جميلا ..
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في غزة وفلسطين ..
اللهم عليك بالصهاينة الغاصبين .. آمين .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والحمد لله رب العلمين
كتبه
برهان بن سعيد
الأمين العام لرابطة علماء إرتريا
([3]) خرجه أبو داود (4884)، وأحمد (16368) باختلاف يسير من حديث جابر وأبي طلحة الأنصاري، واختلفَ في إسناده، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب برقم 1353 وقال عنه المنذري 3/201 : ” لا ينزل عن درجة الحسن وقد يكون على شرط الصحيحين أو أحدهما “.
([4]) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) مطولاً.
([5]) أخرجه أبو داوود في السنن برقم 4297 وسكت عنه، وقد قال في رسالته لأهل مكة “كل ما سكت عنه فهو صالح” وكأنه يرمز إلى صحته، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 958 : “صحيح بمجموع طرقه”
([6]) أخرجه أبو داود برقم (3462)، والبزار (5887) وهو عند أبي داود (3462)، وأحمد (4825) باختلاف يسير، وقال ابن تيمية في الفتاوى 6 / 45 : “إسناده صحيح” وقال الشوكاني في نيل الأوطار : 5/318 : “له طرق يشد بعضها بعضًا”، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم 1389
([7]) هو عند أبي داوود برقم 3/ 138 وغيره بطرق مختلفة ومتقاربة، لكن كلها لا تخلو من مقال، انظر تخريج مشكل الآثار للشوكاني برقم 1163 وانظر السلسلة الضعيفة للألباني برقم : 1105
([10]) سورة آل عمران : آية 152
([11]) سورة التوبة : آية 38 – 39
([12]) سورة آل عمران : آية 187
([16]) أخرجه الترمذي (2376) وقال : “حسن صحيح”، وأحمد (15794)وهو عند ابن حبان في صحيحه، برقم 3228 وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم : 1710
يوجد 2 تعليقات
مصطفى
معظم العلماء في السجن لان الشعب لم يسمع و فتح التلفاز و الموسيقى و ترك غزو ثقافي و لباس في نفسه و غيره.
كذلك الناس من الجهل تعاملاتهم فيما بينهم في الأسر الكثير ليست دينية و الكثير منها تحطم لان كل هذه الأمة تحت أنظمة أتت بدعم العدو او بفساد منتشر
امل
صدق الله العظيم وصدق رسوله الأمين
جزاكم الله خيرا