بقلم/ أ.د.جلال الدين محمد صالح
يتعدد المجتمع في طبقاته، كما في طبائعه، فليس كل من فيه على طبع واحد، ولا على طبقة واحدة، في الفقر والغنى، والشرافة والوضاعة، وفي الجلافة واللطافة، وفي الإقبال إلى الحق أو الإدبار عنه.
وعلى هذا التنوع من الخصال الحميدة والدنيئة، يوجد فيه من يزعم لنفسه علو المقام منصبا، وعلو الذات نسبا، فيتسامى على كل من ليس في طبقته، فلا يجالسهم، ولا يحاورهم، ولا يجاورهم، ولا يناكحهم، ويتأفف من أن يصافحهم، ومن قبل قال عظماء قوم نوح متعالين على من آمن به – كما حكى الله عنهم – : ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) الشعراء: 111.
وهكذا تعللوا بالفوارق الطبقية، في إعراضهم عن نوح ودعوته، إذ لا يسمح لهم كبرياؤهم بمجالسة من هم دونهم، في مقاييس المجتمع الجاهلي.
ومن واقع ضغط هذه المشاعر الاستعلائية الكثيفة، والتي رانت على قلوبهم، طالبوا نوحا بطرد الذين آمنوا، من دون طبقتهم، فما كان جواب نوح إليهم إلا بما وجهه الله به، كما في قوله تعالى: ( وما أنا بطارد الذين آمنوا إنًّهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ) هود: 29. .
ولأنهم قوم يجهلون، كان هذا تصرفهم في ترتيب العلاقات الاجتماعية، وتصورهم لمعنى التفاضل، وهو المتوقع منهم.
ولأن المجتمعات الجاهلية متشابهة في تصوراتها الهابطة لمعنى الحياة، وعلاقة الناس فيها ببعضهم، ليس غريبا أن نجد الطلب نفسه يطرحه الملأ من قريش على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – ويأتي التوجيه الرباني نفسه على النحو الذي جاء به في نوح عليه السلام؛ لكون الغاية واحدة، ومصدرها واحد، ووجهتها واحدة، توحيد الله بالتعظيم، وتعبيد العباد لرب العباد. وكسر كبرياء القوم الذين يجهلون، إذ ينهى الله نبيه عن تحقيق مطلبهم بقوله ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ) الانعام: 52 .
ويقول ابن سعدي – رحمه الله – في تفسيره: ” وكان سبب نزول هذه الآيات، أن أناسا من قريش، أو من أجلاف العرب، قالوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – : إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك، فاطرد فلانا وفلانا ، أناسا من فقراء الصحابة، فإنا نستحي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء، فحمله حبه لإسلامهم، واتباعهم له، فحدثته نفسه بذلك، فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها “.
وهو مطلب جد ذميم، وأمارة من أمارات التكبر، وصفة من صفات الشرك والنفاق، لا يخلو منه مصر ولا عصر، يتكرر كلما ارتكست البشرية وانتكست.
وقد كان المجتمع الأمريكي – وهو من أقوى مجتمعات الجاهلية المعاصرة، وأكثرها ترفا وبطرا – بكل ما يدعيه من تفوق حضاري، يتأسس – بتشريع دستوري – على تفرقة لونية، الأبيض فيها هو الأعلى، وغيره هو الأدنى، يستهجن وقوف العنصر الأسود إلى جانب العنصر الأبيض، في صف واحد، على ساحة كنيسة واحدة، إذ خص كلا منهما بكنيسة، لا يتعداها إلى غيرها، وإذا ما ضل الأسود طريقه، فدخل كنيسة الأبيض، حيل بينه وبينها، ورد عنها بغليظ القول وسيئه، وكأن الإله المعبود للأسود، ليس هو الإله المعبود للأبيض، في الدين نفسه، وكأن المسيح – عليه السلام – لا ينظر إلى الجميع نظرة واحدة، وكأنه صلب – كما يزعمون – فداء للبيض أولا ثم للسود ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) النساء: 157.
وهذا – بداهة – خلق لا يصدر من قلب ذاق حلاوة الإيمان، فعرف معيار التفاضل الحقيقي عند الله، واتخذ من الرسول أسوة له وقدوة، ومن الإسلام دينا.
وهو وإن كان في أصله من أدواء الجاهلية، بما عليها من التلوث بسموم الكفر والشرك، من الممكن أن يتسرب أيضا ويتسلل إلى المجتمع المسلم، فيتخذ منه بعض المسلمين سلوكا في علاقتهم مع من يرونهم أقل منهم منزلة، جهلا من عند أنفسهم، أو استجابة لتزيينات الشيطان وتحسيناته الاغوائية.
وقد وجد في مجتمع الرسول من عير أخاه بأمه – كما في البخاري – ولكن – كما جاء في بعض الروايات – سرعان ما استعفاه واستسمحه، عندما أنكر عليه الرسول فعله هذا بقوله: أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية!.
وأحيانا يأتي ردا على فعل يماثله، كما حدث ذلك من منظمة ( أمة الإسلام ) ( Nation of Islam ) وهي منظمة أمريكية، تضم السود فقط، أسسها أليجا محمد، وتزعم أن الإسلام دين السود فقط، وليس للبيض فيه مكان، وأن ليس للشيطان وجود حقيقي، وإنما الرجل الأبيض هو الشيطان الحقيقي، وهو مصدر الشرور كلها. بما ارتكبه من جرائم في حق الشعوب الأخرى، وبما اخترعه من آلات الدمار.
وكان مالكوم إكس – رحمه الله – عضوا في هذه المنظمة، مشحونا بكراهية الرجل الأبيض، يحمل هذا الفهم في أول أمره، إلا أنه ذات مرة جادله داعية سوداني حضر إلقاء خطابه، وقال له: إن الإسلام رسالة الله إلى العالمين جميعا، لا ميزة عنده لأحد على الآخر إلا بالتقوى، ولا معنى لتمايز الألوان والأعراق في عقيدته.
واقترح على مكتب (رابطة العالم الإسلامي) بنيويورك، أن تخص مالكوم إكس بدعوة للحج، في ضيافة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمهما الله.
وقد فعلت، وحج مالكوم إكس بصحبة الملك فيصل – رحمهما الله – وأكل في مائدته مع البيض والسود، ورأى الناس يحجون معا، ويلبون معا، ربهم واحد، ونبيهم واحد، ودينهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، وأمتهم واحدة، بمختلف ألوانها ولغاتها، وأعراقها، وأجناسها، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.
وعاد مالكوم – رحمه الله – وقد تغيرت أفكاره، ولكن يقال اغتالته ( سي آي إيه ) وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية، عام 1965 م، حتى لا يكون له أثر في تصحيح مفاهيم منظمة (أمة الإسلام) الأمريكية.
وهذا التصرف الناضج من هذا الداعية الناضج، في معالجة هذه الظاهرة المنافية لتعاليم الإسلام، مثل من أمثلة عديدة؛ لما ينبغي أن يقوم به الدعاة، تجاه مشكلة من هذا النوع.
ومنهج الإسلام في مواجهة هذه المشكلة، ينشئ المجتمع على قاعدة (الكرامة الإنسانية) أولا، و (العدالة الاجتماعية) في الوفاء بالحقوق والواجبات ثانيا.
وهو معنى تجسيد قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء: 70 .
وتجسيد لما قرره الرسول في حجة الوداع، من وحدة الأصل الإنساني (كلكم لآدم وآدم من تراب).
وما فرضه، وأكد عليه من المساواة أمام العدالة، وإلغاء كل الفوارق المتعارف عليها جاهليا( وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) كما في سنن أبي داود.
وفوق كل ذلك، مبدأ (الإخوة الإسلامية) و (الولاء لله ورسوله والمؤمنين) بين من آمن بهذا الدين طواعية، في ظل حرية الاعتقاد ( لا إكراه في الدين ) ومجادلة أهل الكتاب ومن سواهم بالحسنى، ثم من شاء فاليؤمن ومن شاء فاليكفر.
ويرفض بشدة منهج الفلسفة الماركسية التي تؤمن بالسلطان القمعي، والصراع الطبقي، وتدعو إلى تأجيجه، كما يرفض بالقوة نفسها منهج الفلسفة الرأسمالية التي تؤسس للاستغلال الطبقي، والتعاطي الربوي، وجعل المال والسلطان دولة بين الأغنياء؛ ليزداد الفقير فقرا، والوضيع وضاعة، ظلما وعدوانا.
وعلى الداعية أن يكون واضحا صريحا، في بيان منهجه هذا، من غير محاباة ولا مجاملة لطبقة على أخرى.
وربما فكر بعض الدعاة في مجاراة علية القوم، سعيا إلى كسبهم؛ لما يرجون منهم ويأملون فيهم من مساندة أمر الدعوة، إذا ما استجابوا إلى ما يدعونهم إليه، وربما آثروهم على الطبقات المسحوقة والمهمشة من المجتمع، وخصوهم ببشاشة الوجه، ومجالس لا يحضرها إلا هم.
وهذا من تلبيس إبليس، وقد نبه إليه القرآن تربية للدعاة، من بعد أن هّمٌّ بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عندما عبس وتولى عن الأعمى، رغبة في إسلام من استغنى، من علية القوم، فعاتبه ربه بقران يتلى.
ومن يتأمل سيرة الدعوة ومسيرتها المباركة، عبر الحقب كلها، يرى أن أول المؤمنين بها هم أفراد الطبقة المهمشة والمضطهدة؛ لأنهم يجدون فيها حريتهم، وكرامتهم الانسانية.
وبهذا هم مشروع استثمارنا الدعوي، ومنطلق نضالنا الاسلامي في تحرير الانسان؛ ليكون عبدا لله وحده، فليجدوا منا كل عناية واهتمام وحسن معاملة، وحذاري من أن نفرط فيهم.
والإسلام وإن كان يحفظ للكريم منزلته، إلا أنه لا يعلو به فوق الحق، ولا يمالؤه على باطله.