يستحسن الشرع المنزل، والعقل الفطن، تحري كل ما كان جميلا طيبا، تسر به النفوس، وتنشرح له الصدور، في تحصيل مطالب الحياة وزينتها، من الملبس، والمأكل، والمركب، والمسكن، والمنكح.
وهو من هديه – صلى الله عليه وسلم – إذ كان جميلا في خلقته، وجميلا في خلقه، وجميلا في تعطره، وجميلا في ملبسه وأناقته، وجميلا في مشيته، وجميلا في شؤونه كله، يحب الجمال ويحببه إلى أصحابه.
وهو من قال – كما في رواية أحمد بسند صحيح – : حبب إلي من دنياكم النساء والطيب.
ومن حبه لنا حبب إلينا ما حبب إليه، إذ دعانا إلى أن نأخذ زينتنا عند كل مسجد، ورفع عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، وحرم علينا التبتل عن متع الحياة، والرغبة عن النساء، وقال – كما هو مخرج في الصحيحين – : وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وفي ذلك شرع لنا التناظر عند الخطبة، وأباح لنا تعقب المرغوبة للاقتران، والكمون لها؛ لنرى منها ما يدعونا إلى نكاحها، ولو كان ذلك خلسة، من غير أذن منها.
ولا حاجة هنا؛ ليسأل سائل: لماذا يكون الكمون والتعقب من الرجل دون المرأة، ما دام المعروف عرفا، والمعقول عقلا، أنه الخاطب فعلا، وهو المنشئ للمشروع أصلا.
ومع ذلك، للنساء حق الامتناع أو الانصياع، عند المناظرة والمقابلة، حسبما يرين فيه، مما يدعو إلى السرور به وقبوله، أو النفور عنه وصده.
وقد تكون هذه المعاينة من الخاطب مباشرة، أو عبر وسيط من ذكر أو أنثى.
ومعلوم شرعا، أن ليس من عمل الوسيط الذكر، أن يتصيد المخطوبة، فإنه مشمول بغض البصر، وليس داخلا في الاستثناء بالرخصة، فإن ذلك للخاطب وحده، ونقل عن المالكية جواز توكيل الخاطب في النظر رجلا ينوب عنه، شرط أن لا تكون نظرته إليها نظرة تلذذ.
وأنى لرجل له ما له من الفحولة، ينظر إلى ذات جمال، ثم لا تحرك فيه ساكنا ! .
وخلاف ذلك، الوسيطة الأنثى، من ( الخطابات).
وفيهن من اتخذت هذه الوساطة حرفة لها، تسترزق منها، يتصل بهن القاصدون من الرجال، والراغبات من النساء والفتيات.
وثمة مواقع إلكترونية لبعضهن، يستقبلن فيها المهاتفين والمهاتفات.
ولسن كلهن في الصدق والأمانة سواء، ولابد من الفطنة والنباهة، عند التعامل معهن.
والدين أوجب عليهن النصح في ذلك، بقوله – صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم – : الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول لله؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
وبين ما يحل لهن من النظر إلى المخطوبة، مما لا يحل، عند وصفهن للخاطبين، مشترطا أن يكون ذلك بلسان عفيف.
ومما يذكرنه في هذا من الأوصاف: لون البشرة، سمارا، وسوادا، وبياضا، وطولا، وقصرا، وبدانة، ونحافة،
ولأن الجمال نسبي، فليس كل ما يراه زيد شرطا في الجمال، هو كذلك عند عبيد.
ولهذا، الحسم في الأمر لا يتحقق إلا من المعاينة، وربما ليس من المعاينة الأولى، والثانية، وفي نظري الثالثة لابد أن تكون هي القاطعة.
ولكن جاء في (نهاية المحتاج) – من فقه الشافعية – ” وله تكرير نظره، ولو أكثر من ثلاث، فيما يظهر، حتى يتبين له هيئتها، ومن ثم لو اكتفى بنظرة، حرم ما زاد عليها؛ لأنه نظر أبيح لضرورة، فيتقيد بها.
وجاء في (الروض المربع ) – من فقه الحنابلة – قوله: نظر ما يظهر غالبا، كوجه، ورقبة، ويد، وقدم .. مرارا، أي يكرر النظر؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – صعد النظر، وصوبه، ويتأمل المحاسن؛ لأن المقصود إنما يحصل بذلك.
وجواز هذه المعاينة مبسوط في تراثنا الفقهي، وحسبنا قول الإمام النووي – رحمه الله – معقبا على ما ساقه الإمام مسلم، من أحاديث النظر إلى المخطوبة: ” وفيه استحباب النظر إلى وجه من يريد تزوجها، وهو مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وسائر الكوفيين، وأحمد، وجماهير العلماء، وحكى القاضي عن قوم كراهته، وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث، ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر؛ للحاجة، عند البيع والشراء والشهادة ونحوها “.
والأهم في هذا، معرفة حدود النظر بدنا، ما الجائز منه شرعا، للخطيب والخطابة؟.
ودعنا نبدأ بالخطابة؛ لكونها أول المتحركين في العملية، بتحريك من الخاطب، أو ممن تبحث عن خطيب.
وهي محكومة في هذا بحكم الإسلام في نظر المرأة المسلمة غير الفاجرة، إلى المرأة بصفة عامة.
ولا خلاف بين جمهور الفقهاء، على أن للمرأة أن تنظر من المرأة ما ينظره الرجل من الرجل، فيباح لها أن تنظر إلى بدنها، ما عدا ما بين السرة والركبة.
وفي هذا يقول الفقيه الحنفي الإمام السرخسي – كما في المبسوط – : ” فأما نظر المرأة إلى المرأة، فهو كنظر الرجل إلى الرجل، باعتبار المجانس، ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها، كما يغسل الرجل الرجل …”.
وجاء في الفتاوى الهندية، أنه لايجوز للمرأة أن تنظر من المرأة ما بين سرتها إلى ركبتها، إلا عند الضرورة، بأن كانت قابلة، فلا بأس لها أن تنظر إلى الفرج عند الولادة، ولا بأس أن تنظر إليها أيضا لمعرفة البكارة، في امرأة من اتهم بالعنة والعجز عن الإيلاج.
وفي شرحه على مختصر خليل، ذكر الفقيه المالكي الإمام محمد بن عبد الله الخراشي، أن عورة الحرة مع حرة أو أمة ولو كافرة بالنسبة للرؤية، ما بين السرة والركبة.
والأمر نفسه عند الشافعية – كما جاء في نهاية المحتاج – وكذلك عند الحنابلة، كما جاء في الروض المربع.
وهو ما يفيدنا بأن للخاطبة جواز النظر إلى وجه المخطوبة، وكل ما يتعلق به من حال الحاجبين، انفصالا ووصالا، وتناسق الأسنان، وحجم الشفاه، بروزا وضمورا، وكذلك الصدر، نتوءا وانكماشا، ومثله الشعر، طولا وقصرا، والساقين وتوازنهما في الحجم، وسطا بين الامتلاء والدقة المعيبين، والتقوس والاستقامة.
وهو ما يجوز للعروس إبرازه للنساء، يوم زفافها، في قاعة الاحتفال الخاص بهن، متبخترة بحليها، ومتزينة بزينتها، ومساحيقها.
ولا معنى للتشدد بحظر ذلك عليها، كما قد يفعل بعض الغيورين من أهل الدين، الذين يظنون عدم جواز ذلك، فارضين عليها تغطية رأسها، حتى أمام النساء، وعدم إبداء زينتها إلا ما ظهر !.
وأما الخاطب فله حق النظر إلى الوجه والكفين فقط، وبه قال الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية.
وآخرون قالوا : ينظر من المخطوبة ما يظهر غالبا، وهذا هو الصحيح عند الحنابلة.
وذهب داود وابن حزم الظاهريان، إلى جواز النظر لكل ما يدعوه إلى زواجها، متصيدا وغير متصيد، كما جاء في المحلى.
ويظهر لي – والله أعلم – يكفي ما يظهر غالبا، من الوجه، والكفين، والساقين، والصدر، ومن الرأس الشعر، وكذا الرقبة، والأذنين.
ولابد من أن يكون من غير خلوة، وبحضور محرم.
وعدد أحد الباحثين ضوابط النظر فقال: ” أن لا يخلو بها عند النظر، وأن لا ينظر إليها نظرة تلذذ وشهوة، وأن يغلب على ظنه إجابته لنكاحها، ولا يجوز له مصافحتها، ولا مس أي عضو من أعضائها، وأن يكون هذا النظر قبل الخطبة لا بعدها، وإذا لم تعجبه فليسكت، وأن يكون نظره إلى الوجه والكفين فقط ( هذا ترجيحه ويخالفه فيه غيره ) ولا يجوز له أن يسافر بها، وله أن يحادثها ويسألها ما بدا له، في حدود الآداب الشرعية؛ لأن صوتها في كلامها العادي ليس بعورة على القول الراجح “.
وكتبه الأستاذ الدكتور جلال الدين محمد صالح.