كلمة الشيخ برهان سعيد – الأمين العام لرابطة علماء إرتريا – التي ألقاها في افتتاح المنتدى العالمي للفكر والثقافة بمناسبة مرور عامين على تأسيسه. المقام في 2 نوفمبر 2025.
————
الحمد لله الذي أكرم الإنسان بالعقل وجعله مناط التكليف، فقال تعالى:
«إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [الروم: 24].
وجعل الوعي سبيل النجاة، والفكر وسيلة التمييز بين الحق والباطل، فقال سبحانه:
«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» [الزمر: 9].
والصلاة والسلام على خير الأنام سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الحضور الكريم ،
نلتقي اليوم في هذه اللحظة الفكرية المضيئة، لنحتفي بعامين من الجهد والعطاء للمنتدى العالمي للفكر والثقافة، الذي جاء شعاره «معًا نضيء دروب الفكر» ليجسّد رسالة نبيلة تتجاوز حدود القول إلى الفعل، وحدود الفكرة إلى الأثر.
إن بناء الوعي المجتمعي من أهم مقاصد الرسالات السماوية، وأعظم أدوار النخب والمؤسسات في كل زمان، إذ لا نهضة بغير وعي، ولا إصلاح بغير بصيرة.
وفي عصر تتسارع فيه التحولات الفكرية والثقافية، تزداد الحاجة إلى ترسيخ الوعي الراشد الذي يقوم على الفهم العميق، والموقف المسؤول، والرؤية المتوازنة.
إنّ بناء الوعي المجتمعي ليس مهمة عابرة ولا جهدًا فرديًّا، بل هو مشروع حضاري تتكامل فيه أدوار المؤسسات والنخب، من أكاديميين ومفكرين وإعلاميين ومبدعين. فهم مشاعل النور في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات وتتباين فيه الاتجاهات، ومسؤوليتهم أن يذرعوا في العقول بذور التفكير السليم، وفي القلوب قيم الانتماء والمسؤولية.
فالمؤسسات الفكرية والثقافية حين تنهض بدورها في التنوير، تخلق بيئة حوارية راشدة، وتفتح الأفق أمام الشباب ليكونوا شركاء في صناعة المستقبل، أما النخب المثقفة فهي الضمير الحيّ للأمم، تحوّل المعرفة إلى وعي، والوعي إلى فعل، والفعل إلى نهضة.
إنّ مجتمعاتنا اليوم أحوج ما تكون إلى توازنٍ بين الأصالة والمعاصرة، بين العلم والقيم، بين الفكر والعمل. ولن يتحقق ذلك إلا بتكاتف الجهود واستمرار مثل هذه المنصات الفكرية التي تؤمن بأن الوعي هو حجر الأساس في بناء الإنسان.
الحضور الكريم،
حين نتحدث عن الوعي المجتمعي، فإننا نتحدث عن جوهر التغيير ومفتاح النهوض. فالمجتمعات لا تبنى بالحماس وحده، ولا تنهض بالشعارات، بل تُبنى بعقلٍ راشدٍ، وضميرٍ حيٍّ، وفكرٍ مستنيرٍ يصنع الرؤية ويهدي المسار.
والوعي درجاتٌ ومراحل؛ يبدأ من الوعي الذاتي الذي يدرك فيه الإنسان ذاته ودوره ومسؤوليته، ثم الوعي الاجتماعي الذي يتسع ليشمل فهم الواقع، وتقدير التحديات، والتفاعل الواعي مع قضايا الناس، وصولًا إلى الوعي الحضاري الذي يستشرف المستقبل ويشارك في صياغة مشروع الأمة ونهضتها.
ولتحقيق هذه الغايات، تتوزع المسؤولية على محورين أساسيين:
أولًا: دور المؤسسات في بناء الوعي، والمؤسسات — سواء كانت تعليمية أو إعلامية أو دينية أو ثقافية أو مدنية — هي القنوات التي تصوغ الفكر العام وتشكل اتجاهات المجتمع.
ومن أبرز أدوارها العملية في هذا الجانب:
1. إعادة صياغة المناهج والبرامج الثقافية والتربوية بما ينمي التفكير النقدي وروح المبادرة، لا الحفظ والتلقين.
2. تأسيس منصات حوارية مفتوحة تجمع بين الأجيال والاتجاهات الفكرية المختلفة في إطار الاحترام والتنوع.
3. تفعيل دور الإعلام الواعي والمسؤول في مواجهة خطاب الكراهية والتضليل، وتقديم نموذج للإعلام التنموي القيمي.
4. تبنّي المبادرات الثقافية والفنية التي تسهم في نشر القيم والهوية والاعتدال والجمال، باعتبار الثقافة رافعة للوعي لا ترفًا فكريًا.
5. تعزيز الشراكات بين المؤسسات الرسمية والمدنية في مشروعات التثقيف والتوعية والتدريب المجتمعي.
ثانيًا: دور النخب الفكرية والثقافية، فالنخب — من العلماء والمفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي — هم عقل الأمة وضميرها الحي، ومهمتهم ليست التنظير من بعيد، بل الانخراط في معترك الوعي والفعل.
ومن أدوارهم العملية:
1. توجيه الرأي العام من خلال التحليل الواعي، والخطاب الرشيد القائم على العلم والموضوعية.
2. تجديد الفكر وإعادة قراءة التراث بروح العصر دون قطيعة مع الجذور.
3. تقديم القدوة الأخلاقية والفكرية في النزاهة والاتزان، لأن السلوك أبلغ من الخطاب.
4. المشاركة الفاعلة في صياغة السياسات الثقافية والتربوية والإعلامية، وعدم تركها أسيرة المصادفة أو المصالح.
5. مرافقة الجيل الشاب وإعداد كوادر فكرية جديدة تمتلك أدوات العصر وقيم الأصالة.
ثالثًا: محددات الوعي المجتمعي، لكي يكون الوعي بناءً ومثمرًا، لا بد أن يستند إلى محددات واضحة، أهمها:
• المرجعية القيمية والأخلاقية التي تضبط الفكر وتمنع الانحراف نحو الفوضى أو التعصب.
• الواقعية والموضوعية في قراءة الأحداث والظواهر بعيدًا عن الانفعال أو التهويل.
• القدرة على التمييز بين المعلومة والمعرفة، وبين الفكرة والدعاية.
• الاستقلال في التفكير مع الانفتاح على الحوار والنقد البنّاء.
أيها الأحبة،
إن بناء الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل هو أمنٌ فكريٌ واجتماعيٌ وحضاري، لأن الأمم التي تفقد وعيها تفقد بوصلتها، أما التي تبنيه وتغذيه فإنها تملك قرارها ومستقبلها.
وفي هذا الإطار يأتي دور المنتدى العالمي للفكر والثقافة، ليكون ساحةً للتلاقي والتنوير، ومنصةً للخطاب الراشد، ومختبرًا للأفكار التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم.
الوعي في المنظور الإسلامي ليس مجرد معرفة أو ثقافة، بل بصيرةٌ في الدين والدنيا، قال تعالى:
«قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ» [يوسف: 108].
والبصيرة هي الوعي الذي يربط الفكر بالقيمة، والعلم بالعمل.
ومن مقاصد الشريعة حفظ العقل، لأن فساد الوعي هو أصل انحراف السلوك، ولهذا قال ابن القيم:
«فالعقل أصل العلم، والعلم أصل الإيمان، والإيمان أصل العمل، والعقل شرط في التكليف، فمن لا عقل له لا علم له، ولا إيمان له، ولا عمل له…» كتاب مفتاح دار السعادة.
*«العقل أصل العلم والدين، ومن فقده لم يُعتبر قوله ولا يُقبل عمله»*².
ومن هنا، فإن بناء الوعي المجتمعي يمثل صمام أمان حضاري يحمي الأمة من الانحرافات الفكرية، والغزو الثقافي، والاضطراب الاجتماعي، كما يحقق التماسك بين الأصالة والتجديد.
نحو رؤية عملية لبناء الوعي،
يمكن تلخيص أهم موجهات العمل في النقاط التالية:
• إقامة منتديات فكرية دورية تجمع بين النخب والمجتمع.
• إنشاء برامج لتدريب الشباب على التفكير النقدي والإعلام الواعي.
• إعداد مؤشرات لقياس مستوى الوعي المجتمعي في قضايا الهوية، والمواطنة، والتنمية.
• إطلاق تحالفات بين المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والدينية لخدمة الوعي المتكامل.
الخاتمة
إن بناء الوعي المجتمعي ليس مهمة جيلٍ بعينه، بل هو مشروع أمة، تتكامل فيه المؤسسات والنخب، وتتساند فيه المعرفة والقيمة، والفكر والعمل.
وما أحوجنا اليوم إلى الوعي الذي يجمع ولا يفرق، ويُبصّر ولا يُضلل، ويُضيء ولا يُحرق.
فالمنتدى العالمي للفكر والثقافة، في ذكراه الثانية، يثبت أن الفكر إذا اجتمع على النور كان رسالة، وإذا اقترن بالعمل صار نهضة.
فلنُجدّد العهد على أن نكون معًا نضيء دروب الفكر، ومعًا نبني وعيًا يليق بإنسان هذا العصر.
فلنمضِ معًا — مؤسساتٍ ونخبًا ومجتمعات — لإضاءة دروب الفكر والعمل، لأن الوعي ليس نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية نحو الإصلاح والنهوض.
معًا نضيء دروب الفكر… ومعًا نصنع مستقبلًا يليق بإنسان هذا العصر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ/ برهان سعيد
يوجد تعليق واحد
عبدالرحمن البدري
جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل كلمة رصينة ورؤى متينة واقتراحات بناءة تليق بمكانة علماء إريتريا.
وفقكم الله وسدد خطاكم