خلق الله الإنسان كائنا مكلفا وزوده بآلة العقل وهي مدار التكليف تحملا وأداء
لأن التكليف مرفوع عن فاقد العقل( المجنون) وجعل العقل من النعم المستوجبة للشكر
والمقتضية للإعمال ( إعمال العقل) وتعطيله يقتضي العقاب قال تعالى:
(وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)
فأصحاب السعير لا يستجيبون لنقل ولا يعملون بعقل.
والإسلام لا يعترف بالثنائيات المتعارضة لأن شريعته توحيدية فالنقل الصحيح لا يتعارض
مع العقل الصريح إلا لوجود خلل في أحدهما حقيقة أو توهما وظنا .
وجاءت الآيات القرآنية تحث الناس على التعقل والتفكر بألفاظ ودلالات عديدة مدحا للعقلاء
وذما لغيرهم فقد ورد فعل العقل (49) مرة ولم يرد مصدرا مطلقا أي لم ترد مفردة (العقل)
بل وردت صيغها الفعلية مما يشير بأهمية تفعيله لا تعطيله.
ووردت مرادفات العقل بشكل كبير في القرآن الكريم ويمكن حصرها في الآتي:
1/ اللب والألباب وصفا لأهل العقول وقد وردت (16) مرة.
2/ الحجر وقد ورد مرة واحدة مرادا به العقل.
3/ النهى وأولي النهى والمراد بها أهل العقول ورد مرتين .
4/ الحلم والأحلام وهي من مسببات العقل ورد في موضع واحد .
5/ القلب وقد يراد به العقل في مواطن كثيرة وقد ورد في مائة واثنتين وثلاثين موضعًا
بصيغة الإفراد والجمع والتثنية وهو بالجمع أكثر.
6/ الفؤاد وقد يراد به في بعض اطلاقاته القرآنية العقل وقد ورد في ستة عشر موضعًا
مفردا وجمعا. ونلاحظ مما سبق من أن العقل ومرادفاته (إن قلنا بالترادف)
ورد مئتي وست عشرة مرة يراد به في أغلبها العقل وإعماله وأهميته وبالتالي يمكن القول
بأن من أهم المقاصد والغايات القرآنية تفعيل وإعمال العقول وعدم تعطيلها وعليها مدار
التكليف وتبرز أهمية العقل في النقاط التالية :
1/ العقل شاهد بصحة البراهين والبينات وصدق الرسول والنبوات ثم بعد حكمه في ذلك
يكون التسليم فيكون النقل متبوعا والعقل تابعا بعد التسليم والشهادة
2/العقل هو منحة الله للإنسان وعليه مدار التكليف لأن غير العاقل مرفوع عنه القلم .
3/وإعمال العقل من الغايات الكبرى في القرآن الكريم وكثيرا ما نجد فيه تكرار قوله:
(لعلكم تعقلون) إذن التعقل غاية قرآنية.
4/وتعطيل العقول مما يوجب العذاب في الآخرة لأنه تعطيل لنعمة الله قال تعالى:
( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
5/ والعلوم منها ما هو عقلي كالرياضيات مثلا وهي أساس للتطور الإنساني
وما نراه من تكنولوجيا المعلومات وبالتالي العقل أساس التطور المادي
إذا ما تم تفعيله بشكل صحيح.
6/ والعقل هو أداة التمييز بين الصواب والخطأ وبين القبيح والحسن في إطار
مساحاته وبالتالي فالعقل له دور كبير في نقد الأفكار وتمحيصها وتحديثها وتطويرها.
7/ والعقل يسهم بشكل كبير في تنقية الموروثات وتجاوز القديم البالي منها والإبقاء
على الصالح الذي يمكنه المواكبة والمعاصرة وبالتالي فهو يسهم في تطوير العلوم
والدراسات الإنسانية والاجتماعية.
وخلاصة القول فإن إعمال العقول غاية قرآنية وبتعاضد العقل والنقل يكون الصلاح
والنجاة في الدنيا والآخرة مع تغليب النقل في مصالح الآخرة ودور للعقل في معرفة
مصالح الدنيا يقول العلامة العز بن عبدالسلام رحمه الله:
( فيما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما):
(وأما مصالح الآخرة ومفاسدها، فلا تعرف إلا بالنقل،
ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة)
(وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها: فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات
والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته).
وقال أيضا:(ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك في معظم الشرائع،
إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع، أن تحصيل المصلحة المحضة،
ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم
أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن،
وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن،
وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق العلماء على ذلك. .
وكذلك الشرائع على تحريم الدماء، والأبضاع والأموال والأعراض،
وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال ”
واليوم في ظل حالة التردي العام للمسلمين نلاحظ غيبة للعقل وترك للنقل
أو جهل به أو محاولة إيجاد صراع وهمي بين النقل والعقل وإدارة معارك تهلك الحرث
والنسل وتبتعد عن المعارك الحقيقية للأمة مما أدى لضياع مصالح الدارين
وتسلط الأعداء على الأمة واحتلال ديارها والسيطرة على مواردها
فما أحوجنا لإعمال العقل والنقل الذي يكون بهما صلاح الدارين.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي دافع بقوة عن فكرة التعاضض
بين العقل الصريح والنقل الصحيح في كتابه: (درء تعارض العقل والنقل)
وهو بذلك يبتعد عن الثنائيات القاتلة ومنها ثنائية العقل والنقل.
قال تعالى( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) .