بقلم الشيخ/ محمد صالح أرها
المبادئ العامة :
وفي مقدمة المبادئ والقيم التي أرسى الإسلام دعائمها في علاقته بالرسالات السماوية الأخرى المبادئ الآتية :
• الاعتراف بالشرائع السماوية، تأسيسًا على أن الأصل في الإسلام وحدة الدين، وتعّدد النبوات، وتنوّع الشرائع السماوية والناظر في الرسالات السماوية يجد أنها تكون في مجموعها صرحًا واحدًا، اشترك الأنبياء جميعًا في بنائه، فما من نبي بعث إلا وقد وضع فيه لبنة، حتى إذا شارف البنيان النهاية، ولم يبق منه إلا موضع لبنة، بها يتم صلاحه ويكمل حُسْنه، بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم مبشرًا بالإسلام وداعيًا له، كما في الحديث.
• من الأصول المقررة في بعث الرُّسل تعدد النبوات، وتنوع الشرائع، وفقًا لظروف الأمم وأحوالهم وبيئاتهم على ما تقتضيه حكمة الخالق سبحانه فيما يناسبهم من شرائع وسنن.
• علاقة المسلم مع أهل الكتاب في حال السّلم أساسها؛ وفقًا لما يقرره القرآن الكريم الإحسان، والبر بهم، والعدل معهم، والنصفة لهم، قال تعالى : (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين)، وقد اختار القرآن الكريم للتعامل مع أهل الكتاب المسالمين للمسلمين كلمة (البر) حين قال: (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله وهو حق الوالدين في البر بهما، بل إن الإسلام تجاوز علاقة البر بهم إلى علاقة المصاهرة معهم عن طريق تشريع حل الزواج بالكتابيات، وأكل طعامهم، و حل ذبائحهم، قال تعالى: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فهي علاقة المؤاكلة والتزاور والتزاوج .. وهي أوثق العلاقات، ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده!؟
إن من حق زوجة المسلم اليهودية أو النصرانية أن تذهب إلى الكنيسة أو إلى المعبد- لأن الإسلام لم يشترط عليها أن تتخلى عن دينها في مقابل الزواج منها – ولا حق لزوجها في منعها من ذلك، كما قال الفقهاء .
ومن نتائج هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما في قوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا)، مما يتولد عن ذلك تواصل الأرحام بين الأسرتين من خلال القرابة من جهة الأم , وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى.
• كفل الإسلام لأهل الكتاب أن يمارسوا شعائر دينهم، فلا تهدم لهم كنيسة، ولا يكسر لهم صليب, فمن القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية بالنسبة لأهل الكتاب أن يتركوا وما يدينون؛ فلا يتعرض لهم في عقائدهم؛ فحرية العقيدة حق مضمون لأهل الكتاب . فقد جاء في كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران: (وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَأَنْ لَا يُغَيِّرُوا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَا يُغَيِّرُوا حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا مِلَّتِهِمْ، وَلَا يُغَيِّرُوا أُسْقَفًّا عَنْ أُسْقُفِّيَتِهِ وَلَا رَاهِبًا مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ). وفي هذا يقول ابن القيم- رحمه الله في زاد المعاد : “جَوَازُ دُخُولِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا: تَمْكِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَلَاتِهِمْ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي مَسَاجِدِهِمْ أَيْضًا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَارِضًا”.
• أباح الإسلام لأهل الكتاب ما أباحه لهم دينهم من الطعام وغيره، فلا يقتل لهم خنزير، ولا تراق لهم خمر، مادام ذلك جائزًا عندهم، وهو بهذا وسع عليهم أكثر من توسعته على المسلمين حيث حرّم عليهم الخمر والخنزير.
يقول الإمام الكاساني الحنفي -رحمه الله- في البدائع: ” فَالْخَمْرُ في حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ في حَقِّنَا، وَالْخِنْزِيرُ في حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ في حَقِّنَا في حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا في حَقِّهِمْ”.
• أباح الإسلام زيارتهم وعيادة مرضاهم، وتقديم الهدايا لهم، ومبادلتهم البيع والشراء ونحو ذلك من المعاملات، فمن الثابت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي في دين له عليه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لبيان الجواز لأمته من بعده. وكان بعض الصحابة إذا ذبح شاة يقول لخادمه: ابدأ بجارنا اليهودي.
وتجوز عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ المريض يهوديًا أو نصرانيًا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قُومُوا بِنَا نَعُودُ جَارَنَا الْيَهُودِيَّ فَقَامُوا وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: ” قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ “فَنَظَرَ الْمَرِيضُ إلَى أَبِيهِ فَقَالَ : أَجِبْهُ فَنَطَقَ بِالشَّهَادَةِ …” وهكذا كان تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين في عيادة المرضى، ورعاية حقوق الجار مما كان سببًا لدخول غير المسلمين في الإسلام طواعية واختيارًا وحبًا ووفاء.
• حمى الإسلام كرامة أهل الكتاب، وصان حقوقهم، وجعل لهم الحرية في الجدل، والمناقشة في حدود العقل والمنطق، مع التزام الأدب والبعد عن الخشونة والعنف، قال تعالى : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فأشارت الآية أنه لا حدود قصوى للحوار بين المسلمين وغيرهم حرصا على التفاهم والتعارف، بل إنها نبَّهت إلى أنّ الحوار قد يمتد إلى العقيدة لإتاحة الفرصة لعرض كل فريق منهجه في علاقته بربه مع التسليم بحق الاختيار في نهاية الحوار وهو ما أكدته الآية الكريمة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ففي الآية حثّ الإسلام على حسن مجادلة أهل الكتاب والحوار معهم، وعدم التعرض لهم بظلم أو أذى، وقد عمل بذلك الخلفاء بوصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما في وصية عمر لما طعن، والتي جاء فيها :” أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِى بِالْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرًا….، وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرًا: …، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ ” انتهى وعمل بها الخلفاء من بعده.