سبق أن كتبت عن مصطلح (أهل السنة والجماعة) من حيث النشأة والمراد، كتابةً ما زالت في حاجة إلى مزيد تقص وتتبع، إلا أن قناعتي بأنه مصطلح سياسي حادث، وليس من مصطلحات مجتمع الرسول وصحابته، أراها تتمكن من نفسي، عندما لا أجد له وجودا في عصر النبوة، وإنما ظهوره كان لاحقا، وتطوره أتى في سياق التدافعات السلطانية التي بدأت أول ما بدأت، بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
وأما مقالي هذا، فليس هو إعادة لذاك الجدل بشأن هذه الافتراضية، وإنما هو تعليق وتعقيب على ما أثير في بعض المواقع، من حصر مصطلح (أهل السنة والجماعة) على بقعة من الأرض محددة، أو حقبة من التاريخ مميزة، أوجماعة من الناس، هم إمتداد لهذه الحقبة، على مر التاريخ، وتعاقب الأيام، دون غيرهم، أقلية مهتدية، على الحق منصورة، غرباء، لا يضرهم من خذلهم، وخالفهم، وسط أكثرية غثائية، منذ أن كان لهذا المصطلح وجود.
إذ نفى عنه الأشاعرة، وفيهم الكثير الكثير، من علماء المسلمين، وعبادهم، وزهادهم، وساستهم، وسادتهم، وقادتهم، وعامتهم، ومجاهديهم، في الثغور العلمية والقتالية، قديما في ماضي التاريخ، وحديثا في حاضره.
وهذا النفي في حقيقته هو (نفي النفي) إذ حصر الأشاعرة أيضا من قبل، هذا المصطلح على أنفسهم، ونفوه عن غيرهم، وشنعوا به على مخالفيهم، ونعتوهم بالحشوية، والمجسمة، متخذين من السلطان ظهيرا، ومن القلم مشوها، ومنفرا.
وكان مؤتمر غروزني الذي عقد في ٢٠١٦م، في الشيشان، بسماح من بوتن، حلقة ضمن حلقات هذا النفي المتبادل، وقراراته سهام معركة، تسدد نحو هدف جرى عزله.
ولابد أن تكون السياسة ومكايداتها من وراء ذلك كله، لتعمق من انقسامات المسلمين، وتؤجج بينهم الصراعات الحادة، يتنازعون مصطلحات، ما عرفها رسولهم، ولا سماهم بها، ولا آخاهم عليها، كما يتقاتلون اليوم ثأرا للحسين بن علي، من يزيد بن معاوية، وكلا الرجلين ذهبا إلى باريهما، غير أن ملفهما ما زال مفتوحا، يطحن الأمة طحنا (شيعة) (سنة)
ويا لسخرية الدهر من (بريمر) حاكم العراق، بعد الاجتياح الأمريكي لعاصمة الرشيد ( بغداد) حين زعم أنهم بغزوهم هذا، لم يحملوا على دباباتهم الديمقراطية الغربية فحسب، وإنما حرروا وأنصفوا الأكثرية الشيعية، من الأقلية السنية، التي اضطهدتهم، من العهد العباسي، حتى نظام صدام حسين.
وها هم الآن، يوقدون الشرارة نفسها، لإشعال حرب أخرى سنية سنية، بنبش ما في تراثنا من منازعات، هؤلاء أشاعرة هم من يمثل (أهل السنة والجماعة) وأولئك مجسمة وحشوية، مرقوا على (أهل السنة والجماعة).
وهؤلاء (إخوان مسلمون) خوارج العصر، ما هم بسلفيين، ولا السلفية منهم في شيء، إن هم إلا خوارج، خرجوا على (السنة والجماعة)، فلا أدري، هل الدعاة والعلماء، في الأمة، على وعي بأخطار هذه المنازعات، حين يثيرونها؟.
هل ما يفرق المسلمين إلى أشاعرة مؤولة، وحنابلة مثبتة، ويثير بينهم معارك، تبدأ كلامية، لتنتهي دموية، أكثر في دينهم، مما يجمعهم، ليجعل منهم قوة ضاربة، أم العكس؟.
ماذا دهى الأمة بلغ هوانها إلى حد التحالف مع عدوها لضرب ذاتها بذاتها؟
لماذا لا يفكر المسلمون فيما يوحد بينهم، ويؤجلوا ما اختلفوا فيه إلى يوم الحساب، ولا سيما كل منهم أراد تنزيه الله تعالى أخطأ أم أصاب؟ هل يدركون أنهم من حيث يظنون النفع يضرون، ويخدمون أجندات خفية مدمرة، تدفعهم من وراء حجب إلى ما تريد من حرب شاملة، تزيدهم تفتيتا وهم لا يشعرون؟.
يسمي المثبتون منهم للصفات، خصومهم (المعطلة) لأنهم عطلوا صفات الخالق عن مدلولها الحقيقي حين أولوها.
ويسميهم المؤولة (مشبهة) لأنهم كما يظنون شبهوا الخالق بالمخلوق.
ولكن نسي هؤلاء، وهؤلاء أن الجميع بات من (المعطلة) و (المشبهة) في آن واحد، حين عطل جميعهم (الشريعة) عن الحاكمية، وحين حَكَّمُوا عليهم مخلوقا، يحلل لهم ويحرم كما يشاء، وهم لا يثورون عليه، بل يرى بعضهم طاعته من الدين، وهو بصنيعه هذا يتشبه بالخالق الآمر (ألا له الخلق والأمر) (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
وبنهجهم هذا جعلوا من الأسماء والصفات، مجرد مادة جدل، كلهم لا يعيشها واقعا في حياتهم السياسية، وكأن الله وصف بها نفسه وسمى، للجدل لا للعمل.
وقد قال لي أحدهم في دولة خليجية، حين شكوت إليه صنيع أفورقي بنا: عليك السمع والطاعة فهو أميرك الشرعي.
ضحك مصاحبي مقهقها فنهره، ولزمت أنا الصمت، ولقد لفت نظري هذه الأيام، كثرة الحلقات، على (اليوتيوب) التي تستهدف الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمهما الله – بالتحامل الشديد المجافي للحقيقة.
بعضها يظهر العداوة، تدفعه عصبية تصوف زائغ، لا راشد، وتشيع منحرف، أو يد استخبارات تخطط للفوضى الخلاقة، يزين للناس بناء الأضرحة، والاستغاثة بالصالحين، ويعيب على الوهابيين إنكارهم هذا، ويُدِينُ هدمهم لها، وتطهير الحجاز منها، ويصفه خروجا على إجماع المسلمين، ومفارقة لأهل السنة والجماعة.
وينادي بنزع الحرمين من أيديهم، ونفوذ سلطانهم، ووضعه تحت قيادة مشتركة، لتعود فيه القبور كما كانت، يطاف بها كما يطاف بالكعبة، وينحر لها كما ينحر الحجيج، في منى، تقربا.
ويستجدي عطف الغرب بحرية المعتقد، وحق التعبير عنه، عسى أن يجد منهم عونا.
وبعضها جاء في صورة نقد علمي، ومن قلب نجد، معقل الوهابيين أنفسهم، وقد يكون كذلك، ولكن النظر إليه ضمن الحالة الراهنة، من استهداف الإسلام، بشكل عام، والسعي إلى إسقاط رموزه، تثير العديد من التساؤلات، وتبعث الكثير من التشككات.
لست ضد النقد العلمي، فليس أحد فوق النقد، وقد نقد الألباني من قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمهما الله – والقرضاوي حسن البنا، وسيد قطب، رحمهما الله، وكذلك فعل البروف جعفر شيخ إدريس في نقده لكتاب (معالم في الطريق) يوم كان هذا الكتاب محل تسليم وطباعة متداولة شراءا وتوزيعا.
ولا أزعم أن كل ما قاله وأصَّل له الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مقبول منه، ومسلمٌ، ولكن أتساءل فقط، هل هذا النقد بريئ ليس له من هدف سوى تصحيح الخطأ، وترشيد المسيرة، وابتغاء الحقيقة الشرعية، لا إسقاط الرمزية الدعوية والسياسية، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية في تجديد الدين.
أشك في خلو الأمر من مآرب سياسية، وأصابع خفية، تستهدف الإسلام، لتجعل منه دينا إرجائيا، كل شيء فيه مباح، ومستساغ، طاعة وإيمان، وتوحيد وإخلاص، من استغاث فيه بالقبر، كمن استغاث فيه بالله، ومن نحى فيه الشريعة كمن حكمها، وكل من ادعاه مؤمن كامل الإيمان، ليس فيه ما ينقض إيمانه، أو ينقصه، مهما عمل وارتكب، وشرع وحلل وحرم، عكس ما كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيما أسماه (نواقض الإسلام العشرة) فهذا تطرف منه وتشدد، كما يود لهم أن يقولوا، ويؤصلوا.
هنالك المداخلة، وهنالك المخارجة، وهنالك، وهنالك.. كل يقول عن نفسه أنه وحده (أهل السنة والجماعة) وما عداه من أهل البدعة والفرقة، وعلى هذا يقاتل في ليبيا، أناس استباحوا الدماء تحت راية حفتر، عسكري مستبد، لا علاقة له (بأهل السنة والجماعة) ولا بسلف الأمة، وإنما علاقته بالسلطة والاستبداد، إلا أنه للأسف يناصر بنصوص من تراث (أهل السنة والجماعة).
غرائب وعجائب، يشيب لها الولدان، ولكن كما قال رئيس وزراء السودان الأسبق محمد أحمد المحجوب : هذا زمانك يا مهازل فامرحي قد عد كلب الصيد من الفرسان، وهنالك ( داعش) لها خليفتها، وإمامها ودولتها، ترى في ذاتها هي (أهل السنة والجماعة) وما عداها مارق يستحق الموت والذبح.
لهذا أقول: كفى بنا هوانا ما نحن فيه، ولا داعي لإشعال معارك وهمية، تزيد النار حطبا، فالأمة كلها اليوم بلا (سنة ولا جماعة) فرق يضرب بعضها رقاب بعض، ولست بقادر على تصور سنة، من غير جماعة، ولا جماعة من غير إمام، ولا إمام، من غير سلطة نافذة.
وهذه هي السنة المضيعة، وهذه هي الجماعة المفقودة، ومن ناصرها وسعى إليها هو من أهل السنة والجماعة، أشعريا مؤولا كان، أم حنبليا مثبتا، ومن عاداها هو من أهل البدعة والفرقة، مهما كان مثبتا، فهو معطل عمليا.
وهي ما يعمل الأعداء على الحيلولة دون ظهورها ووجودها وتجددها، مستغلين عيوب التراث، وتنازعات السلف، في مسائل كلامية، يوم كانوا في بحبوحة من أمرهم، في ظل خلافة سياسية، تقيم قدرا من السنة، وتحفظ بيضة الجماعة، وترهب المتربص بها سوءا.
وكل ما عدا ذلك من مسميات، ما هي إلا دعاوى مجردة، ومحاولات قد تكون صادقة، في إحياء مجد الأمة، كل منها يزكي نفسه، ويراها على السنة والجماعة، ولكن من غير سنة ولا جماعة.
إن هذا المصطلح ( أهل السنة والجماعة) معدوم الوجود اليوم، إلا في المجادلات العلمية، والمناكفات الجماعاتية، وبطون الكتب التراثية، كل يدعيه لنفسه، أما عامة المسلمين، فلا يعرفون إلا مصطلح (الإسلام) الذي سماهم به الله على لسان أبيهم إبراهيم، عليه السلام، ولا ينطقون (السنة) إلا في سياق المصطلحات الطائفية، عندما يذكرون الشيعة، يرون مقابلهم في تصورهم النمطي (السنة) وهذا فهمهم لها ليس إلا، وكثير منهم لا يعرف ما الذي يميز السنة عن الشيعة.
وكتبه/ أ. د. جلال الدين محمد صالح
وإلى حلقة تالية