يتحدد أصل الاعتقاد فيما كان عليه مجتمع الصحابة، بيانًا من الله ورسوله.
وقد سمى الله مجتمع الصحابة (المسلمين) ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام.
وهو ما يعني أن مصطلح (المسلمين) هو مختار الله لكل مجتمعات الأنبياء، يتواصون به، ويتواصلون عليه، ثبت بنص قرآني، وصفًا جامعًا لكل أفراد الصحابة، وهو ما وصى به إبراهيم بنيه، ويعقوبُ (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ). [البقرة 132]
وهو ما أسلمت عليه ملكة سبأ مع سليمان (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). [النمل 44]
ثم خلف من قومهم خلف فرقوا دينهم شيعًا، وجعلوا من الدين مجرد انتماء طائفي، حتى صارت الطائفية هي العلامة الفارقة بينهم، ونهى الله المسلمين، أن ينهجوا نهجهم، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام 159]
وعلى هذا كان عنوان (المسلمين) هو الوعاء الحاوي، لكل أصناف مجتمع الصحابة، حتى المنافقين شملهم، وضمن لهم الحصانة، وعصمة الدم والمال والعرض، على الرغم من أنهم يبطنون الكفر، مع أخذ الحيطة وشدة الحذر من كيدهم، بحكم أنهم الطابور الخامس (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
وكانت استراتيجية النبي الأمنية، تولي وحدة الجبهة الداخلية، تحت هذا الاسم العام (المسلمين) عناية خاصة، لدرجة الكف عمن آذاه في عرضه، وتولى كبر الإشاعة فيه، عبد الله بن سلول، حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وحتى لا يتشقق الصف المسلم بعصبيات قبلية، قد تتفجر فيه.
وكلما هز المنافقون تماسك الجبهة الداخلية بإثارة عناوين جانبية (أنصار) (مهاجرين) (أوس) (خزرج) تستهدف ضرب العنوان العام (المسلمين) خرج الرسول واصفًا الأمر بالجاهلية.
ويتنزل القرآن، ليذكرهم بما كانوا عليه، من قبل أن يؤلف الله بين قلوبهم، ويأمرهم أن لا يموتوا إلا وهم مسلمون. وهكذا بقي الجهد كله موجهًا إلى جبهة الشرك، في مكة، تحت هذا الاسم العام (المسلمون) بعيدًا عن القضايا الانصرافية الجزئية، حتى كان الخلاص منها، واستعادة حرم الله وتحريره من سلطانها ونفوذها، لتصبح الكعبة بعد ذلك خالصةً لله، طاهرة مما نصب في جوفها، من أوثان وأصنام عبدوها من دون الله.
ومضى الأمر على هذا، إذ ظلت الجبهة الداخلية تتكتل، وتتحشد، تحت الاسم نفسه، في مواجهة حركات التمرد الداخلي، كما جرى في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- مع الأعراب المرتدين، ومدعي النبوة، حفاظًا على وحدة الجبهة الداخلية من الانشطارات، وأبدى عمر -رضي الله عنه- معارضةً في قتال مانعي الزكاة، وجادل في ذلك أبابكر، إلا أن الله شرح صدره لما شرح له صدر أبي بكر فازدادت الجبهة الداخلية تماسكًا، على عنوانها العام.
كذلك كانت حركة الفتوحات، تجري على العنوان نفسه، إذ سير أبوبكر جيش أسامة لمواجهة الرومان، في الشام، مصرًا على أن لا يحل لواءًا عقده رسول الله، وهدأت المعارضة على قيادة أسامة، حفاظًا على وحدة الصف الداخلي، أمام التحديات الخارجية، وعلى هذا المنوال نفسه سار الأمر في عهد عمر -رضي الله عنه-، ثم في عهد عثمان -رضي الله عنه-، حتى كانت واقعة قتله -رضي الله عنه- شهيدًا، فانكسرت الجماعة، وكانت الفتنة، وانشطر الصف، وظهرت الاجتهادات.
وهنا وجد المنافقون، والمندسون بغيتهم، وتعالت أصوات المتنطعين، مدفوعة بالغيرة على الدين، والحماسة له، فظهرت الخوارج، كما ظهرت الشيعة، وكانت للأهواء والمطامع السياسية، حضور في كل ذلك، بأقدار مختلفة.
وقال علي في الخوارج: إخواننا بغوا علينا.
ما سلبهم اسم الإسلام، وما أقصاهم عن مظلة العنوان الجامع (المسلمين).
وبه ضمن لهم حقهم في الفيء، وحقهم في الحياة، ما لم يحدثوا فسادًا، وحقهم في حضور المساجد، أماكن تجمهر المسلمين، وتجمعهم، وراعى فيهم إخوة (الإسلام) التي انكسرت ببغيهم، جهلًا منهم وتبلدًا، وهكذا كان الأمر، حتى فقد المسلمون هذا الاسم الجامع لهم، الذي سماهم الله به (المسلمين) ليتوزعوا إلى طوائف متنازعة، ومتقاتلة، فغشيتهم مفاهيم الطائفية، كما غشيت أممًا من قبلهم.
وهو ما يدعونا إلى أن نقرر، بأن كل هذه الأسماء والعناوين، بما في ذلك مصطلح (أهل السنة والجماعة) هي وليدة اجتهادات بشرية، لها أسبابها ودواعيها، حدثت وتطورت ضمن حركة الزمان.
ولا يَجْرَحُ إيمانَ امرئ ما، قولُه: أنا (مسلم) لا أرضى بغير اسم (المسلمين) بديلًا، ولا حاجة لي إلى لقب (سني) و(شيعي) ( أشعري) ( معتزلي)، فهذه انتماءات طائفية، أو مدارس فكرية، تولدت ونمت لاحقًا، ما الله عنها بسائلي.
وتتضح لنا عقلانية، وصوابية، هذا التصور، في الانتماء إلى اسم (المسلمين) من التأمل في نشاة مجتمع (المسلمين) البسيطة خلال عصر التنزيل، إذ لا تعقيد في الدين.
والدين نفسه راعى هذه البساطة في التعريف بأصوله، لهذا المجتمع الناشئ، كما يظهر لنا ذلك جليًا في حديث جبريل، يوم جاء على صورة بشر، وأسند ركبتيه إلى ركبتي الرسول ﷺ، يسأله: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟.
وكانت مخرجات هذا اللقاء الشريف، وهذه الإسئلة العقدية، في غاية البساطة والوضوح.
وهي ما يعرف في ديننا بأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، والإحسان، على أنه عبادة الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وعلى ضوء هذه البساطة، والوضوح، في التصور العقدي لمجتمع (المسلمين) الأول، قبل طروء التعقيد الكلامي، والجدل الفلسفي، نستطيع القول: إن ما يجمع المسلمين من أصول عقدية، أمام مكايدة الأعداء ومكرهم، هو ما جاء في حديث جبريل، ليس إلا.
ينضوي في ظله العامي، والعالم، والقائد والمقود، وهو الإسلام، وعليه المسلمون، والعنوان الجامع للجميع (المسلمون)، وكل الذي ترتب لاحقًا، على هذه الأصول، من جدل في تفسير دلالتها، هو اجتهاد بشري، فيه الخطأ، وفيه الصواب، ولا يخلو صاحبه من المثوبة ما كان مخلصًا، يبتغي الحق، وإن لم ينله، ويصله، يُعْذَرُ فيما خالف فيه غيره، وعليه أن يعذر مخالفيه، في سبيل حفظ الجماعة من الانكسار، والسنة من الضياع.
وهذه الجموع البشرية من الناس، بكل ما تمتهن من حرف، وما تنتمي إلى شعوب وقبائل، وأعراق، يجمعها اسم (المسلمين)، تحت هذا العنوان نراها تكتظ في المسجد الحرام، يوم الحج الأكبر، وتملأ ساحات صلاة العيدين، تُكبٍّرُ معًا، وتهلل معًا، فرحة بما رضي الله لها الإسلام دينا، واسم (المسلمين) عنوانًا جامعًا، ووعاءًا حاويًا، من بعد صيام شهر رمضان في عيد الفطر، ووقوف في عرفة، في عيد الأضحى.
وما عليه عوام المسلمين من البساطة، في فهم أصول الدين، أقرب ما يكون اليوم إلى تلك البساطة التي كان عليها مجتمع الصحابة، نعم هنالك جهل، ولكنه جهل ينجلي بتجديد الدين، على ما كان عليه مجتمع الصحابة، من فهم لهذا الدين اسمًا ومضمونًا، واسمًا عامًا هو ما سمانا به أبونا إبراهيم عليه السلام (المسلمين) .
وكتبه/ أ. د. جلال الدين محمد صالح
وإلى حلقة تالية
يوجد تعليق واحد
إبراهيم
التعليق …جزاك الله خيرا دكتور جﻻل وتقبل منكم ةمنا صالح العمل وليتنا نعي هذه الحقيقة الواضحة