خلق الله الإنسان حرًا كامل الإرادة، يفعل ما يريد في حدود قدراته الانسانية، ولم يسلبه هذه الإرادة أبدًا، وبهذا، الجريمة هي قرين الإنسان، منه تصدر، وعليه تقع، ولا تكون إلا حيث هو، فلا جريمة من غير إنسان، ولا إنسان من غير جريمة.
وما من تشريع في الحياة إلا وجاء لحماية الإنسان من أن يكون ضحية الجريمة، أو مصدر الجريمة، بما يسنه من عقوبات رادعة، تترتب على ارتكابه للجريمة فما هي إذن الجريمة أولًا؟ وما هي أول جريمة عرفها الإنسان في تاريخه ثانيًا؟ .
و الجريمة كما عرفها الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) هي: “محظورات شرعية، زجر عنها الشارع بحد أو تعزير”، والمحظورات لفظ يعم المأمورات والمنهيات، فكل من امتنع عن إتيان مأمور، أو ارتكب منهيًا، فقد أتى الجريمة، وأما قوله: “زجر عنها الشارع بحد أو تعزير” فهو بيان للعقوبة المترتبة على انتهاك حرمة هذا المحظور. وهذه العقوبة إما أن تكون حدِّية، بمعنى حدّها الشارع في كتابه، ولم يتركها للمخلوق، يُعملُ فيها مزاجه، وهواه، وهي سبعة، منها حد الزنا والسرقة، وحد القذف… الخ، وسنتكلم عنها في حينها في الحلقات القادمة من هذه السلسلة.
وإما هي تعزيرية، بمعنى متروكة لتقدير القاضي، والقانون يحصرها بين حدين، أعلى لا تتجاوزه، وأدنى لا تقصر عنه، وأول جريمة وقعت في تاريخ الإنسان، هي قتل ابن آدم المظلوم، على يد ابن آدم الظالم.
ونحن نتحدث هنا عن الجريمة الجنائية، يعني بتعريفها الجنائي، لا بتعريفها العام.
وقد حدثنا الله في القرآن عن هذه الجريمة، إذ وقع الخلاف حين أصرَّ ابن آدم الظالم على الزواج من أخته التي ولد معها في بطن واحد، مخالفًا التشريع الآدمي في ذلك، حيث لا يحل للذكر الزواج من توأمه الأنثى التي تولد معه، وإنما من الأنثى التي تولد مع أخيه الآخر، والمشكلة هنا أن ابن آدم الظالم ابتلي بجمال التي ولدت معه، ودمامة التي ولدت مع أخيه المظلوم، وهذا يرينا أن وراء كل جريمة دافع يدفع إليها، فهي لا تأتي من فراغ، مما يعني أنها إشباعٌ لرغبة شاذة في الإنسان، تتحرك فيه، حتى تحمله على مخالفة القانون.
ولما قربا قربانًا إلى الله، ليحكم بينهما، تقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، وهو الظالم، وكونه ظالمًا؛ لأنه تعمد وبإصرار مخالفة التشريع، وبهذا الإصرار هدد أخاه بالقتل، وقال له: (لَأَقْتُلَنَّكَ)، فكأن رد المظلوم (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ).
ومخافة الله رب العالمين هي ضمانة من ضمانات التغلب على دوافع الجريمة، وكأنه يذكِّر أخاه بمخافة الله، حتى لا يُقْدِم إلى هذه الجريمة التي يهدده بها، ولكن هذا الشقي أبى أن يرتدع، فقد تمكنت منه إرادة فعل الجريمة كامل التمكن، وسيطرت عليه كل السيطرة، ولم تمنحه أدنى فرصة للتفكير العقلاني الإنساني الراشد، فارتكبها مع الترصد وسبق الإصرار، وهو ما بينه لنا المولى عز وجل بقوله: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
ومعنى طوعت له سهلت عليه فعل الجريمة ففعلها، وهو إذ يفعلها إنما فعلها بمحض إرادته، ولم يكرهه عليها أحد، ارتكبها عن وعي وقصد، ومن هنا يتحمل وزرها إلى يوم القيامة، له نصيب من كل جريمة قتل تقع على الأرض، إلى يوم القيامة، كما جاء في الحديث، وفي هذا تحميل الإنسان مسؤولية عمله، ولا معنى للاحتجاج بالقدر، فالقدر ليس إلزامًا، ولكنه سبق لما سيفعله الإنسان بإرادته، قبل أن يفعله، ولو كان القدر حجة في ارتكاب الجريمة، لما كان معنى لتشريع العقوبات.
وهذا مما لا يليق بسمو التشريع الإسلامي، وقد احتج سارقٌ على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالقدر، حين قال له: كيف تقطع يدي وقد قدر الله علي أن أسرق؟ فرد عليه عمر بقوله: كيف تحتج علينا بالقدر وقد قدر الله أن نقطع يدك؟ وعلى هذا الفهم لعلاقة الإنسان بالجريمة وعلاقة الجريمة بالإنسان المجتمع كله يتحمل مسؤولية مكافحة الجريمة من الانتشار.
وتتحق هذه المكافحة من خلال ما يلي:
1- التجريم
2- العقوبة
3- الوقاية
و التشريع الإسلامي جاء شاملًا لهذه العناصر الثلاثة من أركان مكافحة الجريمة، وسنتحدث عنها في حينها، من هذه السلسلة الشهرية.
والله الموفق
أ. د. جلال الدين محمد صالح
يوجد تعليق واحد
عبدالرحمن احمد عمر
جزاك الله خيرا الدكتور جلال الدين محمد صالح الموسوعة، فقد استفدنا منكم كثيرا، بارك الله فيكم وفي علمكم، ونحن في انتظار حلقاتكم بكل لهفة وشوق.
حفظكم الله وسدد خطاكم