بقلم الدكتور/ حسن سلمان
المسلم في مسيرته إلى الله ومواجهة التحديات بحاجة إلى الثبات العقلي والنفسي والعملي لأن المسيرة تعتريها الكثير من العقبات والمشكلات الذاتية والموضوعية ولا يصلح معها الاضطراب والقلق والضبابية ولذا نجد مفهوم الثبات من المفاهيم القرآنية العظيمة التي وردت في عدد من الآيات.
والثبات هو الدوام والاستقامة على الحق والجادة ولزوم الصراط المستقيم من غير عوج ولا انحراف وهو عدم التحول عن الصراط المستقيم بالتشكيك والشبهات والشهوات والصبر على كل ذلك حتى الممات قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ([طه 82] والاهتداء المذكور هو الثبات وملازمة الطريق حتى النهاية .
وقد وردت عدة سياقات في الآيات القرآنية عن الثبات تعطي بمجموعها المعاني المرادة والعوامل المساعدة على الثبات ومنها: قوله تعالى: (كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [الفرقان 32] وهنا تشير الآية إلى القرآن وكونه نزل منجما وليس جملة واحدة ليكون مثبتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالقرآن أهم عامل من عوامل الثبات على الدرب.
وكما أن القرآن عامل ثبات للنبي المرسل فهو كذلك عامل ثبات للناس المرسل إليهم وخاصة أهل الإيمان والتقوى كما في قوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل 102]
والثبات على الحق والجادة لا يكون إلا بنوعين من الهداية:
الأولى منهما: هي هداية الدلالة والبيان والتي تكون من خلال الرسالة والرسول كما في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ([الشورى 52] والثانية هي هداية التوفيق والسداد وانشراح الصدر بقول الحق وهي هبة إلهية محضة كما في قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين) [القصص 56]
والثبات المذكور يتطلب الدعاء واللجوء إلى الله وطلب المعونة منه والاستعانة به فالناس كلهم فقراء إلى الله والله هو الغني ذو الرحمة ولهذا نردد في كل صلواتنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة 5] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر دومًا من قول (اللهم إني اسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد) ابن حبان في صحيحه وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من قوله: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) [الترمذي وغيره].
والثبات المطلوب يكون في التزام الإيمان وتصوراته والتزام الأحكام الشرعية بعيدا عن أي حرج نفسي أو تشكك عقلي أو تردد عملي (فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف 2] (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء 65] ومفارقة الباطل وأهله وعدم الاستجابة لأهوائهم وتضليلهم وهو محك دقيق وصعب يتعرض له كل داعية ولا نجاة إلا بحفظ الله وتثبيته قال تعالى: (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء 74].
ومن عوامل الثبات الشرعية التزام كل واجب في وقته وزمانه وعدم التعجل فكم من زلات وقعت وفرص عظيمة ضاعت بسبب التعجل قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ([النساء 66] وكما قيل في القواعد الفقهية من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه فكم من أناس تعجلوا الجهاد فلما كتب عليهم تولوا عنه إلا قليلا منهم كما في قوله تعالى: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ قِیلَ لَهُمۡ كُفُّوۤا۟ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ یَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡیَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡیَةࣰۚ وَقَالُوا۟ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَیۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَاۤ أَخَّرۡتَنَاۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲۗ قُلۡ مَتَـٰعُ ٱلدُّنۡیَا قَلِیلࣱ وَٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِیلًا) [النساء 77]
ومن المواطن العظيمة التي يتطلب فيها الثبات ويحرم فيها الفرار ملاقاة العدو وساحات القتال قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) [الأنفال 15] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال 45].
ويرتبط الثبات في القتال وساحات الجهاد بالثبات الروحي والعقلي والنفسي والمنهجي على الحق ونصرته في سائر سوح الحياة ومنعرجاتها وتقلباتها قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد 7].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا) [روضة المحبين 475].
ومن عوامل الثبات على الطريق النظر في سير وقصص الرسل والأنبياء السابقين ودعاة الحق من المجاهدين وتدبر كيفية ثباتهم حتى الممات مهما كانت التضحيات والأثمان باهظة والمسيرة شاقة والعقبات كثيرة قال تعالى: (وَكُلࣰّا نَّقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَاۤءَكَ فِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةࣱ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ) [هود 120]. ويرتبط الثبات الدنيوي على الحق والالتزام به بالثبات في الآخرة قال تعالى: (يثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَیُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِینَۚ وَیَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ) [إبراهيم 27] والجزاء من جنس العمل قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن 60].