الفاتيكان تحزن من أن يرفع اسم الله على آيا صوفيا ورابطة علماء إرتريا تفرح بذكر الله

26 يوليو 2020 1687

بقلم/
أ. د. جلال الدين محمد صالح

يهتز اليوم ضمير أوروبا الصليبي من عودة مسجد آيا صوفيا إلى سيرته الأولى مسجدا يذكر فيه اسم الله، ويرتجف فجعا من أن يرى هذه الجموع المؤمنة تؤمه في صلاة الجمعة، يتقدمها زعيم سياسي له رصيد كبير من الإرث العثماني العظيم، ويقود دولة هي جزء من هذا الإرث، وتكافح لإثبات فاعليتها وتأثيرها على أحداث العالم، ولا سيما في محيطها الإقليمي.

وإنه لحدث لو تعلمون عظيم، له دلالاته السياسية، والتاريخية العميقة، يحسب لأردغان من الناحية السياسية، وتسجله صحائف التاريخ في قائمة إنجازاته الرائعة.

وترتجف منه أوروبا، لا لأنها ضعيفة تماما وتركيا قوية فوق قوة أوروبا، ولا لأن أوروبا تبجل المسيحية وتعظمها، ولكن لأن في عودته عودة الروح الإسلامية، يوم كانت لها السيادة والريادة في تدافعها مع إمبراطوريات العالم العظمى، حيث انهارت أمامها الإمبراطورية الفارسية في العراق، والرومانية في بلاد الشام، إذ دخلها عمر بن الخطاب فاتحا ومُخَلِّصًا المسجد الأقصى من قبضة هرقل، وقد داست حوافر جياده كبرياء كسرى في القادسية، ومعلوم أن معارك فتح الشام تزامنت مع معارك فتح العراق وفارس.

ثم والت الأمة من بعده رسالتها العالمية التحريرية، تنتصر تارة وتنكسر تارة أخرى، حتى كان فتح القسطنطينية عام 1453 م، على يد الخليفة العثماني محمد الفاتح، وكان فتحا مبينا، بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، واستشهد في سبيله أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – وظفر به محمد الفاتح رحمه الله.

جانب من مشاركة الرابطة في صلاة الجمعة بآيا صوفيا

ولكن ما أن أخذ الخور يدب في مفاصل الخلافة العثمانية، ويتسلل إلى مكامن عزها وقوتها، في رجال الجيش، والفكر، والنخب المثقفة، بسبب عوامل داخلية عديدة، وأخرى خارجية، منها مكائد الحركة الماسونية العالمية، والحركة الصهيونية، بقيادة هرتزل، لم تلبث أن سقطت، لينحصر وجودها في رقعة من الأرض ضيقة بالنظر إلى امتدادها الواسع والعريض، هي تركيا اليوم التي أثقلتها أوروبا المنتصرة بقيودها الاستعمارية، وتوزعت تركتها في اتفاقية سايكس بيكو، وزيرا خارجية بريطانيا، وفرنسا.

وحكمها أول من حكمها دكتاتور عسكري، قاد الإنقلاب على الخلافة، يدعى كمال أتاتورك، بعد أن حقق انتصارا على الحلفاء، وحال دون سقوط استنبول.

ثم تركها تحت قبضة العسكر، يتناوبون عليها بانقلابات عسكرية، يدوسونها بأحذيتهم الغليظة، لتزداد تخلفا على تخلف.

وكان آخر محاولة لهم في 2016 م، باءت بالفشل بعد أن تصدى لها الشعب وقاومها في صورة نادرة من البطولة الفريدة، ليبقى أردغان الرئيس المنتخب، يقود تركيا الديمقراطية وعصرها الحر .

وبالرغم من ذلك ما زال لنفوذ أتاترك بقاء قوي حتى اللحظة، لا يمكن تجاوزه، يُقدسه مقدسوه وكأنه خالقهم، ويُجَرَّمُ كل من يمس مبادءه العلمانية وكأنها وحي.

ولقد قرر هذا الرجل أن يجعل من آيا صوفيا متحفا، بعد أن ظل مسجدا.

ولابد أن ترى أوروبا في صنيعه هذا انتصارا لها كبيرا، وثأرا منها للإمبراطور البيزنطي الذي تهاوت قلاعه أمام جحافل وضربات العثمانيين.

وقد كانت الخلافة بكل ما فيها من عور، تؤرقهم، وترهقهم، حيث دقت خيولها أبواب ڤينا عام 1683 م.

وما نامت عيونهم، ولم تنم بعد، وأنى لها أن تنام واسم ( الخلافة) ما زال حاضرا في نفوسهم ومخيفا لأجيالهم، من كبار ساستهم، حتى بعدما ظنوا أنهم وأدوه، فقد يأتي يوم – ولا محالة أنه آت – تكسر فيه هذه الأمة قيود سايكس بيكو، لتتحد بشكل من الأشكال، في رؤية سياسية مشتركة، وقوة عسكرية متحالفة، تحت قيادة مشتركة، وسوق إسلامي مشترك، وبنك إسلامي، ومحكمة إسلامية عليا.

وما كانت خشية أوروبا الحديثة من الخلافة، ومكائدهم ضدها حتى يومنا هذا إلا خشية من الإسلام نفسه، ويعلمون أنه دين ما جاء ليموت، ولكن لينتصر ويسود، وله تصوره الفريد للحياة وعلاقة الإنسان فيها بالإنسان، وبخالق الانسان.

لهذا لا غرابة أن تنزع أوروبا العلمانية اليوم قناعها المزيف، لتبدي سوأتها كما كانت عليها في عهدها الصليبي السافر، إذ خرج بابا الفاتيكان ليقول: إني حزين وقلبي يتفطر ألما من عودة مسجد أياصوفيا مسجدا.

وكأنه يحرض قادة أوروبا وعظماءها السياسيين، حتى ينتصروا لصليبهم، ويرفعوا عنه الحزن الذي أصابه، كما كان يفعل أسلافه الأوائل في الحروب الصليبية الأولى.

وماذا يحدث لأياصوفيا حين تعود مسجدا سوى أنها استعادت مكانها المقدس، من أن تكون متحفا يحط من منزلتها الدينية التي قامت عليها أول ما قامت، سواء في عهدها البيزنطي، ثم الإسلامي.

ولكن عندما تكون الطائفية هي المتحكمة في عقول كثير من الأحبار والرهبان، تراهم يضللون العباد، ويقولون غير الحق، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

وبابا الفاتيكان الذي أعرب عن أسفه من قرار المحكمة التركية، وهو قرار سيادي، لا يرى في كنيسة أياصوفيا كنيسة المسيح وإنما كنيسة الشيطان، لأنه كاثوليكي، وهي أورثذكسية، وهو مرتد في معيارها الديني، وهي مرتدة في معياره الديني.

ويوم زار القاهرة، لم يسمح له بابا الكنيسة القبطية الأورثذكسية دخول بعض الأماكن المقدسة عند الأقباط، لأنها أعظم من أن تطأها قدماه.

ويذكر لنا تاريخ الصراع الديني في أوروبا، أن الفاتيكان كانوا أشد فرحا يوم انتصر الشيوعيون بقيادة لينين، في ثورة 25/ أكتوبر/ 1917 م، ضد القيصر، ودمروا الكنيسة الأورثذكسية في روسيا القيصرية، وجردوها عن نفوذها الديني بقوة الكفر والإلحاد.

فبأي منطق ديني إذن يأسف ويحزن بابا الفاتيكان اليوم لهذا القرار السيادي التاريخي، إذا كانت هذه هي نظرة الكاثوليك إلى الأرثذوكس؟.

ولكنه الذعر من مستقبل الإسلام في المنطقة، على الرغم من الضربات الشديدة النازلة عليه بتتال وتتابع، لا غيرة على أياصوفيا في عهدها البيزنطي، فقد فعل بها الكاثوليك يوم سبقوا إليها الإسلام الكثير من السوء والأذى.

ولكنها صيحات يحاول الفاتيكان أن يحرك بها ضمير الأوروبيين الصليبي، حتى يؤجلوا رجعة الإسلام أقوى مما كان، وحتى يفعلوا كل ما يمكنهم فعله، وكأنه يقول لهم: إني أرى ما لا ترون.

رابطة علماء إرتريا تشارك بالفتح الكبير

ولكن مهما صاحوا وناحوا، وفتكوا وقتلوا فسيفاجأون بصيحة تأتيهم من هنا وهناك، تزيد متعصبيهم والطائفيين منهم، رعبا على رعب.

وما صلاة الجمعة التي أقيمت هذا اليوم 24/7/2020 إلا واحدة من هذه الصيحات الإيمانية التي تزعج الطائفيين من الأوروبيين، فقد شهدها جمع كبير من المسلمين في تركيا، توافدوا لأدائها من شتى قرى ومدن تركيا، وتابعها بفرح وزهو الملايين من المسلمين في العالم، وربما أيضا في العالم الغربي نفسه.

وإنها بوصفها هذا تعني الشيء الكثير بالنسبة لأوروبا بمنطقها الطائفي، والاستعماري الإمبريالي، وبخاصة في علاقتها مع الإسلام، وهو ما يزعجها كثيرا، ثم في علاقتها مع الأتراك الذين يقودون وعيا إسلاميا.

كما تعني الكثير أيضا بالنسبة للأمة الإسلامية المثخنة بالجراحات، وأعظم ما فيها من المعاني النبيلة بالنظر إلى واقع الهزيمة التي تعيشها أمتنا الاسلامية، إحياء الشعور بأن هذه الأمة خلقت لتحيا وتبقى، وأن هزيمة تلحق بجيل من أجيالها، في عصر من عصورها، لا تعني بأي حال من الأحوال، هزيمة لجميعها، واستئصالا لقيمها، في كل حقبها التاريخية، ولابد أن تزيحها عنها مهما طال الأمد، فالأيام دول، ومن سره زمن ساءته أزمان.

ولقد قرأ إمام مسجد أياصوفيا في جمعته الأولى هذه، بعد 86 عاما من الإغلاق، سورة الفتح ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا) ومن خلفه مأموما الرئيس رجب طيب أردوغان.

وحضرت رابطة علماء إرتريا أداء هذه الفريضة في هذا المسجد التاريخي، ممثلة في أمينها العام الشيخ برهان سعيد الجبرتي، وأمين أمانة الاستراتيجية الدكتور حسن سلمان.

مشاركة الأمين العام الشيخ برهان سعيد الجبرتي وأمين أمانة الاستراتيجية الدكتور حسن سلمان في الفتح المبين لآيا صوفيا

ورابطة علماء إرتريا بما تبشر به وتحمله من مفاهيم التسامح، وقيم المجادلة بالحسنى مع أهل الكتاب، وبما تدعو إليه من تعايش بين الأديان في إرتريا بصفة خاصة، وبلاد الحبشة بصفة عامة.

وبما تعرفه من تاريخ الكنيسة الأورثذكسية الحبشية من اضطهاد المسلمين، واليهود، والكاثوليك، والبروتستانت، وتخييرهم بين اعتناق عقيدتها والموت.

وبما تؤمن به وتنادي من تجريم الإكراه على الدين، لابد أن تستغرب وتستنكر هذا الموقف البابوي الذي نسي أو تناسى ما فعله الكاثوليك بمساجد المسلمين في قرطبة بعد استيلائهم على الأندلس.

وتدعو الباب أن يطلب ترجمة قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس، حتى يعلم حجم الحزن والألم الذي وقع على المسلمين، يوم حول الكاثوليك مساجدهم إلى كنائس، وارتكبوا في حقهم أبشع الجرائم.

وبهذا لقد كان الإمام موفقا في قراءته سورة الفاتحة في ركعتي الجمعة اليوم بمسجد أياصوفيا.

وفعلا أنه فتح مبين، واستشراف لمستقبل عظيم، تنطلق فيه الأمة من عقالها، وتفك عنها القيود التي عليها، من بعد أن تتعرف على هويتها الحقيقية.

فأين استنبول اليوم بمآذنها العالية، ترفع الآذان بالعربية، من استنبول البارحة التي جعل أتاتورك من مسجدها متحفا، ومن آذانها أعجميا، ومن حجاب حرائرها مُحَرَّمًا ومُجَرَّمًا، أليس في هذا فتح عظيم.

وما بخاف على أحد أن من سنة الله في الحياة أن لا تدوم قوة من بعد ضعف، ولا ضعف من بعد قوة، ولكن الله يقلب الأمور، ليبلونا أينا أحسن عملا.

وأوروبا العجوز اليوم ليست هي أوروبا الفتية التي غزتنا واستعمرتنا، ونحن يومئذ في حالة من التخلف الفكري، والضعف العسكري، والانحراف العقدي، نعبد القباب والأضرحة، ويعبث بنا شيوخ الخرافة والتصوف المنحرف.

لم يعد لأوروبا اليوم ما تقدمه للعالم، فقد أفلست قيميا، وفكريا، وانهارت أخلاقيا، وباتت تعتمد على أمريكا في حماية حماها، وقد طالبها ترامب بسداد وتحمل تكاليف هذه الحماية، وهي تشهد اليوم الموت البطيء يسري في جسدها.

جانب من مشاركة الرابطة فرحة المسلمين بإعادة آيا صوفيا إلى وضعه الطبيعي جامعًا تقام فيه الصلوات الخمس

في حين نرى الأمة الإسلامية تستفيق من غفلتها، وتعالج عوامل الضعف فيها، تثور هنا وهناك، وتأبى أن تهون، وتعمل في استعادة عافيتها بالعودة إلى أصالة هويتها الإسلامية.

لهذا أقول: إن عودة أياصوفيا مسجدا في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ أمتنا الإسلامية، وفي هذا الشهر العظيم من الأشهر الحرم، يبعث بأكثر من رسالة، يفرح بها المؤمنون، ويغتاظ منها المنافقون.

ومن هؤلاء أولئك الذين ساءهم أن يروا أياصوفيا تلامس أرضه الجباه الساجدة، تمنوا أن لو بقى على الوضع الذي وضعه عليه كمال أتاتورك، معتقلا وحبيسا مكبلا.

ولاشك أنهم اليوم أكثر حزنا، وأشد ألما وهم يرون في هذه الجمعة المباركة جموع المسلمين يصلون خلف إمام يتلو عليهم قول الله تعالى ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا).

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *