بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص الحوار تعريفه – غايته – أصوله – آدابه
أعده وجمعه وهذبه/ د.محمد صالح إبراهيم
تعريف الحوار :
الحوار من المُحاورة وهي المُراجعة في الكلام والجدال من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها .
والحوار والجدال ذو دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1) ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ،وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ،ودفع شبهةٍ ،وردُّ الفاسد من القول والرأي .
الغاية من الحوار :
– إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي.
– إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف.
– التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى.
– البحث والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة.
البدء بمواطن الاتفاق :
إنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة ونشر روح التفاهم ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً والحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال ، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد .
والحال ينعكس لو استفتح المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع ، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمده قصيراً ، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر ، ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته ، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها ، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف .
أصول الحوار :
الأصل الأول : سلوك الطرق العلمية والالتزام بها :
ومن هذه الطرق تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى وصحة تقديم النقل في الأمور المنقولة.
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة: ( إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل).وقال : سبحانه في أكثر من موقع : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
الأصل الثاني : سلامة كلامِ المحاور ودليله من التناقض؛ فالمتناقض ساقط بداهة :
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله :{سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذريات:39) وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان.
الأصل الثالث : ألا يكون الدليل هو عين الدعوى :
لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه إعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في الأصول لإطالة النقاش من غير فائدة .
الأصل الرابع : الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة :
وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك.
ففي الإسلام مثل الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، وغير ذلك .
الأصل الخامس : التجرُّد وقصد الحق، والبعد عن التعصب :
والالتزام بآداب الحوار وأن إتباع الحق، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ هو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء لهوى الجمهور أو الأتْباع والعاقل الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .)
الأصل السادس : أهلية المحاور :
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن
لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً وإن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
الأصل السابع : قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) .
الأصل الثامن : الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون :
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المحارة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق . وقال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ).
آداب الحوار :
* التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام :
إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في الحوار ، التزام الحُسنى في القول والمجادلة ، ففي محكم التنزيل :{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن }(الاسراء :53) . { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } (النحل: 125) .
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } (البقرة :83).
فحق العاقل اللبيب طالب الحق، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف .
* الالتزام بوقت محدد في الكلام :
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع وإن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة حديث المحاور هي إعجاب المرء بنفسه وحبّ الشهرة والثناء وظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس وقِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم .
* حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة :
كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام ، وتجنب الاطالة قدر الإمكان ، فيطلب حُسن الاستماع ، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، يقول ابن المقفع : ( تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع : إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه وقلة التلفت إلى الجواب والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم والوعي لما يقول ).
* تقدير الخصم واحترامه :
ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة وإن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس وأما انتقاص الرجال وتجهيلهم فأمر مَعيب ومُحرّم .
* حصر المناظرات في مكان محدود:
يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل ومما استدل به على ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } (سبأ:46) .
* الإخلاص :
هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ، فعلى المُحاور ان يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته ومن ذلك أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران ، وإظهار البراعة وعمق الثقافة ، والتعالي على النظراء والأنداد .
وفي الختام من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت ، ولا يحبه إلا أنت ، ولا يدافع عنه إلا أنت ، ولا يتبناه إلا أنت ، ولا يخلص له إلا أنت وأيضا من الجميل ، وغاية النبل ، والصدق مع النفس ، وقوة الإرادة ، وعمق الإخلاص ؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام ، ومدخولات النوايا .
وهذا ما تيسر تدوينه وتلخيصه من عدة مداخلات بغية الاستفادة والله وليُّ التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم