التدرج في الدعوة إلى الله تعالى

3 مايو 2021 1818

التدرج في الدعوة إلى الله تعالى هو التقدم بالمدعو شيئًا فشيئًا للبلوغ به إلى غاية ما طلب منه وَفْقَ طرق مشروعة مخصوصة أي التقدم خطوة خطوة، والبَدْء بالأهم فالمهم؛ للترقي إلى أعلى المراتب والتدرُّج باب عظيم من أبواب الدعوة إلى الله تعالى، وهو علم يحتاج إلى فقه كامل بأحكام الدين، فالفقه هو العلم بالأحكام ونصوصها ثم ربط هذه الأحكام ببعضها في إطار واحد، تظهر فيه محاسن الشريعة ومقاصدها، وحكمة الله تعالى في تشريع شرائعه وأحكامه ويعتبر التدرج في الدعوة إلى الله تعالى خصيصة من أهم الخصائص التي تيسر قَبول الحق وتحمُّل تكاليف الدين، وتطبيقه في الواقع،.

ومن أهم دعائم التدرُّج هو علم فقه الأولويات، حتى يتسنى للداعية أنْ يعلم من أين يبدأ، وما هو الذي يجب أنْ يطبق أولاً وإلى ماذا يتدرج منه، ولا يكفي أنْ يكون الداعية عالماً بأحكام الدين، حافظاً لها، عالماً بمقاصد الشريعة الإسلامية ومدركاً لأصولها، بل يجب عليه كذلك أنْ يلم بواقع المجتمع، ويدرس ما فيه من طبائع وصفات ويشخص ما فيه من علل وأمراض، حتى يتمكن من علاجها.

وفهم واقع المجتمع يمكن الداعية من تحديد أمراض المجتمع ثم من أين يبدأ العلاج، وكيف يتدرج به، وما هو الأوْلَى في التقديم والتطبيق، وفهم الواقع يساعد على تحديد كمية العلاج في كل مرحلة من مراحل التدرُّج، لأن كل مرحلة تحتاج إلى فقه ونوع معين من أنواع العلاج، فالذي لا يفهم واقع المجتمع ولا يتفحص فيه قد يعطي المجتمع في إحدى المراحل أكثر مما يجب أنْ يعطي له فيها، أو قد يعطيه أقل مما يجب أنْ يعطي له فيه، وأمَّا علاج كل مرحلة ونوعه، فإنه يتحدَّد بواقع المجتمع وأفراده، فالمجتمعات متباينة في عاداتها وتقاليدها، وفي درجة التمسُّك بهذه الموروثات والتقاليد، وتختلف كذلك في درجة تمسكها بالدين والالتزام بتعاليمه.

وإذا أراد الداعية أن يقيم مجتمعاً إسلامياً يلتزم أفراده بشريعة الله تعالى، فلا يتوهم أن ذلك يتحقق له دفعة واحدة، بل لا بد أولاً من التهيئة النفسية والفكرية للمدعوين، وذلك بتقديم الأهم من الأمور على المهم منها، والتدرج من المألوف الذي اعتادوا إلى الجديد الذي يهدف إلى إيصالهم إليه، ومن كليات الأمور إلى الجزئيات منها، ولا يباشرهم بالإصلاح دفعة واحدة، فإن ذلك يعتبر مصادمة لهم، وتنفيرًا عن قبول أوامر الدين ونواهيه.

الحكمة قاضية بالتدرج :‏
فالحكمة قاضية بالتدرج وصولا للمطلوب، لأن الطبائع لا تقبل التكاليف جملة واحدة، ولا تتخلى عن عاداتها ومألوفها دفعة واحدة، ولا تقلع عما ترسخ وتوطن هكذا فورا، وإنما يروض الناس على قبول التكاليف ترويضا، ويفطموا عن عاداتهم شيئا فشيئا، حتى يتخلوا عنها ويقلعوا.‏

‎‎ فما من داعية يريد أن يعيد أمر الله في أمته ودولته بعد هذه الغيبة، ويتبع غير سبيل التدرج إلا خاب وخسر، لأن ما انهدم على عدة سنين، لا يمكن أن يتم بناؤه خلال أيام أو أعوام، ولأن ما غاب قرنا من الزمان لا يمكن إعادته في أسابيع، مهما امتلأ غيرة وحماسا، إذ لا يفيد الحماس من لا يفقه الدعوة ولا يرتكز على التدرج.

ففي التدرج حكم بليغة، لا بد  من رعايتها والسعي لتحصيلها، ولا توفيق لداعية دون النظر فيها ونسج دعوته على منوالها، وأهم ما يظهر للناظر من حكم التدرج في التشريع والتبليغ والتطبيق، أمور، منها :‏
1- التدرج يسهل قبول الدعوة :‏
‎‎ فلو أن الله تعالى نزل على الناس كتابه جملة واحدة، والشرائع دفعة واحدة، يطالبهم بالتزام تعاليمه كلها، لما قبل ذلك إلا النادر القليل منهم، ولكنه راعى أحوالهم، فخاطبهم بما يوافق الفطرة، ويسهل على المدعوين قبول دعوته، فأنزل كتابه منجما مفرقا، وألزم بالتكاليف شيئا فشيئا، يسلك بهم سبيل التدرج ،ويأخذهم بالرفق، حتى يكون عندهم الاستعداد لقبول الدعوة، عندئذ استكمل دينه وتكاليفه.

فالتدرج هو العلاج لإصلاح النفوس الجامحة، وهو الوسيلة لتقبل التكاليف وامتثالها من غير ضجر ولا عنت.‏
2- التدرج يعين على الإعداد والإحكام :‏
‎‎ وما من دعوة في الأرض تقوم بنشر فكرة أو مذهب أو عقيدة بين الناس، أو تريد إقامة نظام سياسي أو اجتماعي، إلا وهي تحتاج إلى إعداد كبير وتهيئة للبيئة التي تريد أن تغرس فيها بذور دعوتها، لتنبت فيها خيرا وتوفيقا، كما أنه لابد لها كذلك من إعداد الرجال القادرين على حمل هذه الدعوة، حتى تنمو وتسمو وترسخ اعتقادا وممارسة.‏
‎‎ ذلك كله لا يتم، ولا يمكن أن يتم إلا على تدرج يمتد بضع سنين، ذلك كان شأن الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شأن الدعوة التي أحكم غرسها فبقيت، وسرى نفعها في العالمين، وذلك كان شأن الرجال الذين أعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته رضي الله تعالى عنهم، في الدعوة والجهاد، قتالا وجدالا، وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، حتى قال الله تعالى فيهم : “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ” (آل عمران : 110).‏
3- التدرج علاج النفور :‏
‎‎ لا يغيب عن بال قليل الخبرة بالناس والحياة، أن التكليف بالكثرة مما لا يطيقه الناس، ولا يتحملونه، فيدعو ذلك للنفور والإدبار، ولا يجد صاحب الدعوة، الذي يريد أن يلقي بكل التكاليف والتشريعات جملة واحدة للناس إلا القليل النادر ممن يستجيب له، لأن طبيعة المكلفين لا تقبل الأخذ بجميع الفرائض والتكاليف، فيدعوهم ذلك إلى التولي وعدم الإقبال والامتثال، يقول القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : ” وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا” (الإسراء : 106). يقول : “قوله تعالى : “ونزلناه تنزيلا” مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا”

ما يؤكد أهمية اتخاذ سبيل التدرج وضرورة الارتكاز عليه في الدعوة والتبليغ سلوك الشريعة وانتهاجها له في تشريعاتها البديعة كلها إيجابا وتحريما، وسنا للقوانين والأحكام، فظهر التدرج جليا في فرض العبادات، وتحريم العادات الفاسدة، وسن القوانين والأحكام التي تنظم العلائق بين البشر، وتقي المجتمع من الإجرام والآثام.

مجالات التدرج :

  1. التدرج مع من يراد تبليغهم :‏
    ‎‎ وهذا الجانب راعى فيه الإسلام التدرج في تبليغ الدعوة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهو مراعاة جانب المدعوين ولقد كان توجيه القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الإسلام والصدع به، أن يكون على مراحل وخطوات، يبدأ بالأقربين، وينتهي بالناس كافة، ولم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر أن يلقي على الناس جميعا بلاغه المبين.‏
    ‎‎ يقول ابن القيم رحمه الله : “فصل في ترتيب الدعوة، ولها مراتب المرتبة الأولى النبوة والثانية إنذار عشيرته الأقربين والثالثة إنذار قومه والرابعة إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة والخامسة إنذار جميع من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى آخر الدهر… .
  2. التدرج في مقدار البلاغ :‏
    وهذا الجانب هو التدرج في تبليغ حقائق الدين، وشرائعه، وأحكامه فلا يبلغ الدعاة كل الدين بحقائقه وشرائعه وأحكامه للناس جملة واحدة، بقدر ما يطلب منهم أن يتدرجوا في تبليغها.‏
    ‎‎ وليتدرج الدعاة في تبليغ ذلك، لابد لهم من نظر مستمر في أمر غاية في الأهمية، يحدد به نوع البلاغ وقدره، ذلك بالنظر في أحوال الناس ممن يراد تبليغهم هل هم حديثو عهد بالإسلام، وهل التدين باق فيهم حيا ممارسا، وهل يتحملون ما يلقى إليهم من البلاغ، أم بعضه، وهكذا.‏
    ‎‎ فحديث العهد بالإسلام، لا يصلح معه تبليغه كل الدين، وإنما يجزأ له البلاغ بما لا يكون المرء مسلما إلا به، ثم الأهم فالأهم مع مراعاة الأيسر فالأيسر.‏
    ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الدعاة، حين أمر معاذ بن جبل برعاية هذه الأمور، وتحديد قدر البلاغ بحسب حال القوم الذين أرسله إليهم من أهل اليمن، حيث كانوا أهل كتاب يراد الانتقال بهم من دينهم، الذي ترسخت تعاليمه فيهم، إلى دين الإسلام الجديد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدد له بم يبدأ وماذا يقدم وكيف يبلغ “إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله -وفي رواية فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل- فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب”.‏
    ‏ ويوضح ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى بقوله : “والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله ،والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما، كان بيانه لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به “‏.
    ‎‎ ويواصل ابن تيمية في توضيح هذه المسألة فيقول : “.. وكذلك المجدد لدينه، المحي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان ..”.‏
  3. التدرج في التطبيق
    ‎‎ غاية الدعوة العاجلة أن يرى الإسلام في واقع الناس تطبيقا وممارسة، لتنتقل الأمة من أدوار التشريع إلى مرحلة الشروع، ومن تقرير الأحكام إلى الاحتكام بها، ومن تبليغ مبادئ الإيمان ومعانيه إلى تصديقها، والتحلي بها، والإحياء على تفاصيلها.‏
    ‎‎ والأمة بعد ضياع الخلافة -الراشدة – منها، وتفتتها إلى دويلات، ارتبطت بالأرض والجنس والقومية، بدلا عن الإيمان وروابط الإسلام وغاياته، وقد أزاحت الشريعة من منصة الحكم، ومجالس السياسة، ومشروعات القوانين، ابتعدت بذلك كل البعد عن حقيقتها وذاتها.‏
    ‎‎ وغير موفق من ظن إبدال الجاهلية المستحكمة بالإسلام الكامل في يوم وليلة، أو بوصول فئة من الصالحين إلى سدة الحكم ومواطن القرار، ولكن بقاعدة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز : “إنما نميت في كل يوم بدعة ونحيي سنة”، حتى يستكمل التنزيل والتطبيق والعودة والبناء، وما انهدم على قرون لا يكتمل بناؤه على أيام.‏

وما ورد في التشريع الإسلامي من تدرج في نـزول الوحي وفي بناء الأحكام، يعتبر إرشاداً إلهياً في كيفية تحويل أهل الجاهلية، إلى واقع الحقيقة الإسلامية، ليكون مبدأً عاماً في منهجية الصراع مع الواقع الباطل وإذا أراد الداعية أن يقيم مجتمعاً إسلامياً يلتزم أفراده بشريعة الله تعالى، فلا يتوهم أن ذلك يتحقق له دفعة واحدة، بل لا بد أولاً من التهيئة النفسية والفكرية للمدعوين، وذلك بتقديم الأهم من الأمور على المهم منها، والتدرج من المألوف الذي اعتادوا إلى الجديد الذي يهدف إلى إيصالهم إليه، ومن كليات الأمور إلى الجزئيات منها، ولا يباشرهم بالإصلاح دفعة واحدة، فإن ذلك يعتبر مصادمة لهم، وتنفيرًا عن قبول أوامر الدين ونواهيه.

بعض صور من التطبيقات الدعوية في التدرج من السنة النبوية:

  1. نزول القرآن منجَّمًا حسب الوقائع والأحداث.
  2. البَدْء بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل.
  3. البَدْء بدعوة الأقربين.
  4. الدعوة السرية في بداية الأمر، ثم الدعوة جهرًا.
  5. الصبر وتحمل الأذى، ثم رد العدوان، ثم القتال.
  6. بناء جيل الصفوة على الإيمان بالله واليوم الآخر في فترة المرحلة المكية.
  7. عدم الأمر بالتكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات في مكة، ثم الأمر بالتكاليف والأوامر الشرعية في المدينة النبوية
  8. لم يفرض الجهاد إلا بعد قيام الدولة في المدينة النبوية.
  9. لم تفرض التكاليف الشرعية دفعة واحدة، وإنما فرضت تدريجياً.
  10. قَبول بعض أمور الجاهلية حتى تستقر العقيدة وتتهيأ النفوس للتخلِّي عنها

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

إعداد وترتيب / الدكتور محمد صالح أرها

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *