سؤال:
ظهرت في الآونة الأخيرة بعض أشرطة الغناء التي تستعمل في حفلات زواجات الإرتريين باللغة التجرينية، وقد اختلف الموقف منها من بعض الأخوات إلى ثلاث فرق فالبعض منهن يرى أنها جائزة ما دامت الأدوات المستعملة فيها الدف فقط مع إدخال بعض التحسينات والمؤثرات الصوتية، والبعض الآخر يرى أنها لا تجوز وهي من الغناء المحرم، وفريق آخر يقول أن الغناء والمعازف أصلا من المختلف فيه، لذلك لا ننكر حتى لو كان فيها موسيقى، فأرجو من مشايخنا أن يبينوا لنا الموقف الصحيح حتى نستنير به، ونرى أن بيان الحكم من علمائنا في هذه القضية أمر في غاية الأهمية؟
الجواب:
حكم الغناء من المسائل التي كثر حولها الكلام قديما وحديثا والسبب في ذلك أنه ليس من المحكمات والقطعيات ومسائل في بعض تفاصيله ويحدث الإشكال عند التعميم في الحكم منعا أو إباحة وجوازا ولكي يسهل توضيح الحكم وتصوره نوضح المتفق عليه والمختلف فيه وذلك في النقاط التالية:
أولا: أن الغناء شعر وكلام من حيث هو دون دخول مؤثرات خارجة عنه والكلام والشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح ويدور حكم القبيح بين التحريم والكراهة كما يدور حكم الحسن بين الواجب والمستحب والمباح وهي الأحكام التكليفية الخمسة التي عليها يدور الحكم على أقوال وأفعال العباد وتأسيسا على ذلك فالغناء الذي يدعو للفضيلة والخير والحق والجمال والقيم السامية فهو مشروع من حيث هو كلام حسن والغناء الهابط الذي يدعو للفساد والفاحشة والتعصب والظلم والعدوان وتكريس قيم الرذيلة والطغيان فهو ممنوع من حيث هو كلام قبيح لأن الشريعة أمرت بحفظ اللسان عن قول القبيح وحضت على القول الحسن وأن القول القبيح مدخل للشيطان قال تعالى( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) وقال تعالى ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) والقول القبيح قد يكون كفرا أو معصية أو فسوقا وقد يكون كبيرة أو صغيرة.
هذا القدر من المسالة محل اتفاق بين المانعين والمبيحين للغناء فليس هناك من يبيح ويجيز فحش القول في الغناء والكلام القبيح حرام فكيف لو اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
وأما الغناء الحسن فهو مباح كغناء الفرح والأعياد والمناسبات العامة والغناء لحضور الغائب وغيرها مما هو كلام غير مشوب بقبيح القول كل ذلك محل اتفاق إذا كان خاليا من الأدوات والآلات الموسيقية والمعازف.
ثانيا: ما يصاحب الغناء من آلات موسيقية أي ما يعرف ب “المعازف” وهي جمع معزفة، وهي آلات الملاهي ( فتح الباري 10/55 ) ، إذا كان الغناء مشتملاً على آلة عزف ولهو (آلة موسيقى.) فهذا الغناء يحرم استماعه من الرجل والمرأة عند الجمهور . وقد حكى الإجماع على تحريم استماع آلات العزف ـ سوى الدف ـ جماعة من العلماء، منهم الإمام القرطبي، وأبو الطيب الطبري، وابن الصلاح وابن رجب الحنبلي، وابن القيم، وابن حجر الهيتمي قال الإمام القرطبي:
“أما المزامير والأوتار والكوبة (الطبل) فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك. وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسق ومهيج الشهوات والفساد والمجون! وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا تفسيق فاعله وتأثيمه”. انتهى. نقله ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر (الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والأربعون، والخمسون والحادية والخمسون بعد الأربعمائة: ضرب وتر واستماعه، وزمر بمزمار واستماعه وضرب بكوبة واستماعه).
وقد دلت النصوص الشرعية على ذلك ، فمن ذلك حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر، والحر، والحرير، والمعازف” أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، فهو صحيح. ولفظ (المعازف) عام يشمل جميع آلات اللهو، فتحرم إلا ما ورد الدليل باستثنائه كالدف كما سيأتي .
ثالثا : ويستثنى من آلات اللهو التي سبقت في الفقرة أعلاه آلة ( الدف) عند المذاهب الأربعة في الأعراس اتفاقا واختلفوا فيما عداه كما اختلفوا في كونه يباح للرجال والنساء أم للنساء فقط والصحيح أنه مباح في الأعراس وكافة الأفراح كقدوم غائب والختان والعقيقة وسائر المناسبات العامة كما يباح ذلك للرجال والنساء.
كل ذلك في الغناء المباح وغير المصحوب بما يؤثر في الإباحة من اختلاط الرجال بالنساء في الحفلات كما هو السائد.
ومما سبق يمكن الجواب على السؤال أعلاه بأن الغناء إذا كان مباحا في ذاته بأن يكون حسنا وصاحبه الدف فهو مباح وخاصة في الأفراح وأما المعازف الأخرى فحكمها المنع كما تقدم وعلى المسلم ترك الحرام واتقاء الشبهات لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
والله أعلم.