حاجتنا للخلف العدول

28 أغسطس 2024 149

بقلم/ د.حسن سلمان

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله الأمين أما بعد:

ظلت العناية الإلهية تصاحب الإنسان منذ بداية خلقه ثم هبوطه للأرض من خلال هدايات الوحي المنزل تصويبا وتقويما ودلالة للحق والخير ، وذلك مع تتابع الرسل والرسالات ، و بطبيعة الحال فإن الإنسان يعتريه الكثير من عوامل الغفلة والنسيان والخطأ أو العمد والخطيئة أحيانا ، فإن في التجديد الديني المستمر ما يمحو  كل عوامل التعرية والتجريف والتحريف والتبديل التي تطال الرسالات ، هكذا كانت طبيعة الدين وتجدده عبر تجدد الرسالات وظهور الرسل والأنبياء في كل فترة وحين ، حتى كانت الرسالة الخاتمة بظهور وبعثة محمد عليه الصلاة والسلام ليكون للعالمين نذيرا ، ولتكون رسالته رسالة الخلود والعالمية ، ويتضمن ذلك عوامل البقاء والاستمرار  في ذات الرسالة وفي حملتها ، ففي ذات الرسالة فقد تكفل الله بحفظ الرسالة ونصوصها المنزلة قال تعالى:( إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ) الحجر/٩ ، كما تكفل الله تعالى بالتجديد والإحياء الديني في كل مائة سنة ، حيث يبعث لأمة الإسلام من يجدد لها دينها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يبعَثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَن يُجدِّدُ لها دينَها) أخرجه أبو داود وصححه الألباني، وكذلك حالة الاستمرار والمحافظة على حمل الرسالة عمليا دون انقطاع ، والمتمثل في الطائفة المنصورة التي تحمل الحق وتقاتل عليه كما ورد في الحديث: ( لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ” . رواه البخاري ومسلم ، ومن هذه الطائفة المنصورة جماعة العلماء العدول الذين هم خلف عن سلف عدول ، يحملون أعباء الرسالة والذبّ عنها، ويواجهون الأعداء والخصوم بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة إعذارا إلى الله تعالى وإقامة للحجة على عباده ، كما ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده (يحمِلُ هذا العِلْمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عُدولُه يَنفون عنه تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المُبْطِلينَ وتأويلَ الجاهلينَ) ، وفي هذا الحديث دلالات عظيمة في أن الأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة البالغة ، وأن رسالة الله وعلم الوحي محفوظ في السطور والصدور بلاغا وبيانا من العلماء العدول الثقاة ، وهم خلف عن سلف عدول  ، وهم ورثة الأنبياء وحملة الرسالة ، يقومون بوظائف أساسية لخصها النص النبوي في ثلاث وهي :

1/ نفي تحريف الغالين:

لما كان النص المنزل محفوظا من الله ولا يمكن تغييره أو تبديله ، فإن عملية التحريف أي التغيير والتبديل تقع على معاني النصوص ، وذلك بحملها على غير مراد المتكلم ووفق ما تشتهيه الأهواء ، وقد يقع التحريف والتبديل في العقائد كما هو حال الطوائف التي حرفت في الأسماء والصفات ، وقد يكون في الأحكام وهذا يقع من الغلاة الذين لا يلتزمون معاني النصوص في سياقها اللغوي أو الشرعي ، كما هو حال القدرية والجهمية والخوارج وغيرهم من المبتدعة ، وبما أن الأفكار لا تموت فإن بذور تلك الفرق وعقائدها وأفكارها ما زالت قائمة وبصور متجددة ، ودور العدول من العلماء هو نفي التحريف والتغيير والتبديل وما أكثر الغلاة في زماننا ، فمثلا إذا كان الخوارج غلاة العصر الأول في العقائد والأحكام فإن منهجهم لا زال مستمرا حيث التكفير بلا ضوابط ثم بناء الأحكام على التكفير من قتل واستباحة النفوس والأعراض والأموال ، وكذلك غلاة التحريف والتبديل من دعاة العلمانية وطمس حقائق الدين مجاراة لأعداء الله تعالى، ويجد هؤلاء مساندة رسمية من الحكومات العلمانية بما يجعل خطر هؤلاء أشد من خطر الغلاة المنتسبين للتدين لأن معهم ذهب المعز وسيفه .

وخلاصة القول فالغالون جمع غال، وهو الذي يتنطع في دين الله عز وجل، إما بإدخال أشياء ليست في دين الله عز وجل عليه، أو بنقصان أشياء من الدين، فإن أدخل هذا المتنطع زيادة في دين الله عز وجل وجب الرد عليه بترك هذه الزيادة والرجوع إلى الأصل؛ لأنه ربما فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام على غير ما فهمه سلف هذه الأمة، كما أن النقصان من الدين كالزيادة فيه يبين العلماء وجوب أخذ الدين كاملا دون نقصان وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

2/ كشف انتحال المبطلين:

الانتحال هو الادعاء بالباطل والمبطل هو صاحب الباطل كما في قوله تعالى:(وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یَوۡمَىِٕذࣲ یَخۡسَرُ ٱلۡمُبۡطِلُونَ) الجاثية/٢٧، (وانتحالَ المُبطِلين) أي: كذبَهم في نسبة القول، وربما أراد بـ (المُبطِلين) هنا: الواضعين أحاديثَ وأقوالًا مِن تِلقاء أنفسهم، ويقولون: هذا حديث رسول الله أو فعله أو سُنته؛ ليَستدلَّ به على باطله أو نسبوا أمورا قولية أو فعلية للدين وهي ليست من الدين، فهذه الدعاوى الباطلة والكاذبة يتم كشفها وتعريتها من أهل العلم العدول، حتى لا يحصل تلبيس للعامة أو تشويه لصورة الحق المنزل ، والباطل في بعض الأزمان تكون له الصولة والجولة ويتأثر به الجهلة و ضعاف النفوس وأصحاب الأهواء والقلوب المريضة ، وفي زماننا للباطل رايات ومراكز ورموز وشخصيات تحاول انتحال الباطل وتلبيسه ثوب الحق زورا وبهتانا ، في محاولات حثيثة لتقريب التصورات الإسلامية مع الباطل المتفشي عالميا تحت مطارق الهزائم النفسية ، ومن ذلك محاولات الطعن في سنة النبي صلى الله وعليه وسلم ومصادرها الأصلية كصحيح البخاري وغيره، وأنها ليست بحجة – حسب زعمهم – ولم نطالب أو نكلف بها شرعا في مخالفة ظاهرة لحالة الإجماع الذي سارت عليه الأمة في تاريخها الطويل ، بأن مصادر التشريع المعتمدة هي الوحي المنزل كتابا وسنة وما يبنى عليهما من اجتهاد مؤسس على تعليل صحيح أو إجماع معتبر .

3/ تعرية تأويل الجاهلين:

(وتأويلَ الجاهلين) أي القول في القرآن والأحاديث بما ليس بصواب؛ ومعنى التأويل في القرآن الكريم هو التفسير أو حقيقة ما يؤول إليه الكلام والتأويل منه ما هو محمود صحيح ومنه ما هو مذموم والمراد في الحديث التأويل المذموم: أي يبين العلماءُ للناس بطلان تلك التأويلات، ويمنعهم عن قَبولها ، وتأويل الجاهلين مستمر في كل عصر ومصر ، وخاصة في زماننا ما أكثرهم ظهورا في القنوات والجامعات ومراكز البحوث ، يتحدثون بكل جرأة عن الكتاب والسنة بمحض أفهامهم القاصرة وعقولهم الفاسدة التي تأثرت بالفلسفات الغربية والمفاهيم الحداثية ، ثم يقومون بمحاولات إسقاط هذه المفاهيم على النصوص الشرعية بعيدا عن فصيح اللغة وصحيح منهج السلف ومواضعات أهل الاختصاص الشرعي في كل فن من فنون العلوم الشرعية، وأدى هذا النوع من التأويلات الجاهلة للبلبلة الفكرية والاضطراب في التصورات واهتزاز الثقة بالدين ومرجعياته والتهيؤ للتبعية للآخر دون أثارة من علم أو بينة وبرهان بل محض التقليد والافتتان.

وقد حاربت الشريعة الجهل بكل صوره، وحضت على العلم والقراءة والتعلم والتحصيل ، وذلك لأن الإسلام هو رسالة العلم ببراهينه ورسالة الإيمان بدلائله ، فالعلم يقود للإيمان والإيمان يدعو إلى مزيد من العلم ، وإنما يحصل غياب العلم بغياب العلماء وأن يتخذ الناس رؤوسا جهالا يكونوا أساس الضلال والفتنة ، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَماءِ، حتّى إذا لَمْ يُبْقِ عالِمًا اتَّخَذَ النّاسُ رُؤُوسًا جُهّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا.) البخاري ومسلم.

وإن حاجة الأمة المسلمة اليوم للعلماء العدول أشد من حاجتها للطعام والشراب، وذلك لأنها تواجه حملات التشويه والتضليل والتشكيك التي تستهدف دينها وهويتها الثقافية ليجعل منها أمة تابعة منزوعة الكرامة فاقدة الذاكرة والانتماء عاجزة عن النهضة والتطور، تلهث وراء الشهوات مستغرقة في الشبهات بعيدا عن الحق والهدى المنزل من رب الأرض والسماوات، مما يجعل حظها من الدنيا المعيشة الضنكة، وحظها من الآخرة الشقاء الأبدي ونعوذ بالله من ضنك الدنيا وشقاء الآخرة.

والحمد لله رب العالمين

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *