غاية التسليم – الحلقة الثانية والأخيرة

29 يوليو 2024 205

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

تحدثنا في الحلقة السابقة عن مفهوم التسليم وركائزه ونكمل في هذه الحلقة الثانية والأخيرة ونتناول بعض النماذج العملية وثمرات غاية التسليم في حياة الفرد والمجتمع.

ثالثا: إبراهيم عليه السلام وكمال التسليم وتمامه:

الرسل والأنبياء يمثلون النماذج العملية الحية في تحقيق كمال التسليم وتمامه، لأنهم القدوات العملية للبشرية والذي صنعوا على عين الله ورعايته فهم المعصومون المستعصمون ، ومن أكثر من تجلت فيه غاية التسليم من الرسل إبراهيم عليه السلام في علاقته مع ربه جل جلاله ، القائمة على التسليم المطلق في كل مسيرة حياته، والتي كانت نهايتها بإتمام كلمات الله تعالى التي ابتلي بها واستحق بها الإمامة الدينية ، ونشير هنا إلى موقفه مع زوجه وولده عندما تركهما في مكة حيث لا ماء ولا زرع ولا سكان ، ولكنه التسليم لأمر الله من الزوجين رغم صعوبة الموقف وخطورته، وتقول أم إسماعيل لزوجها: (آ الله أمرك بهذا؟) فيجيبها الخليل بقوله: نعم فتقول له: ( إذاً لا يضيعنا!) إنه التسليم المطلق والثقة الكاملة في الله جل جلاله ، ويكبر الطفل وينطلق مع والده الخليل عليهما السلام في رفع قواعد البيت و يكون الدعاء الأساس قولهم:(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ) البقرة /128، إنه الدوران في فلك التسليم لله تعالى ، لهم ولذريتهم من بعدهم ، والثبات على ذلك والموت عليه ،(ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) والعبرة العظيمة في التسليم المطلق عند إبراهيم وابنه عليهما السلام ، عندما أمره الله تعالى بذبح ابنه وفلذه كبده في لحظة كان فيها الوالد أحوج لخدمة ولده وقد ضعف الجسم ووهن العظم وتعلق القلب بالفتى الساعي في خدمة أبيه ، وتأتي لحظة البلاء والاختبار العظيم للوالد والولد معا ، ويسجل القرآن هذه القصة التي تتجلى فيها مقامات التسليم والرضا والسكينة والصبر والتضحية والفداء قال تعالى:( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) الصافات /102.

ولما كان إبراهيم عليه السلام قد وفى ما طلب منه ، وبلغ المقام الأسمى في التسليم لله تعالى ، فقد جعله الله تعالى للناس إماما يقتدى به وبالصالحين من ذريته ، قال تعالى:(وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَـٰتࣲ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّیَّتِیۖ قَالَ لَا یَنَالُ عَهۡدِی ٱلظَّـٰلِمِینَ) البقرة/١٢٤، وبذا فقد شكل مثالا في التصديق والانقياد والتسليم لله رب العالمين، مع العلم بأن النماذج والأمثلة كثيرة في مسيرة الإنسانية الصالحة والمصلحة ولكن كما قيل ( كفى من القلادة ما أحاط بالعنق).

رابعا: ثمرات التسليم لله تعالى:

ولما كان التسليم لله تعالى بهذه المكانة والمنزلة في الدين وأنه العروة الوثقى التي من استعصم بها فقد فاز فوزا عظيما، وأنه مبتدأ الأمر ومنتهاه، فإن لهذا المقام ثمرات عظيمة تتجلى في مسيرة الإنسان الدنيوية والأخروية، ويشعر معها بالمعنى الحقيقي للحياة بعيدا عن العدمية والعبثية والضياع وغياب المعنى، ويمكننا إجمال هذه الثمرات فيما يلي:

1/ الشعور بالأمان والسعادة وراحة البال والرضا بقضاء الله وقدره وحسن الظن بالله تعالى ، وأن العبد يتقلب في هذه الدنيا بين مرادات الله به قدرا وشرعا، قال تعالى :(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد /28، ويتحدث سید قطب رحمه اللہ تعالى عن أثر التسليم لأقدار الله عز وجل في الرضا والطمأنينة، فيقول: (إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد، لكل حادث، ولكل نشأة، ولكل مصير، ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير إنه قدر الله النافذ، الشامل، الدقيق، العميق.

وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب، ولا يرون طرفه البعيد. وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير، فتخفی عليهم حكمة التدبير. فيستعجلون ويقترحون. وقد يسخطون. أو يتطاولون.

والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر، ليسلموا الأمر لصاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح، ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق، وفي أنس بصحبة القدر، في خطوه المطمئن الثابت الوثيق)، في ظلال القرآن ٦/٣٤٤١.

والتسليم لله تعالى في أحكامه القدرية والشرعية تورث العبد سلامة في الصدر ونقاء في النفس فلا حسد ولا حقد ولا غل بل الرضا التام بما كتبه الله له واليقين بأن اختيار الله للعبد كله خير فما أعطاك ولا منعك إلا بعلم وحكمة.

2/ الإخلاص لله تعالى والاستعانة به والتوكل عليه:

إن من أعظم ثمرات التسليم لله تعالى الإخلاص له وحسن الاستعانة به والتوكل عليه ، وعلى هذا مدار الدين كله، فالدين في حقيقته عبادة واستعانة ،( إياك نعبد وإياك نستعين) وبذلك يذوق حلاوة الإيمان ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:(فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب السليم أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان، المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبا إلى الله، خائفا منه، راغبا راهبا، كما قال تعالى:(مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) ق: ٣٣، العبودية/123

3/ الثبات في مواطن الشبهات والشهوات:

الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان يتعرض فيها العبد المكلف لكثير من الشبهات المؤثرة في تصوراته والشهوات المؤثرة في سلوكه ولكن التسليم لله تعالى يكسب العبد الثبات والطمأنينة وراحة البال واليقين ، ولا يكون عرضة للتحولات وتقلبات الفكر ونزغات النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان العدو المتربص دوما ليخرج الناس عن الصراط المستقيم ولا سبيل للعصمة من الضلال في مواطن الشبهات إلا باتباع المحكمات الشرعية وترك المتشابه والتسليم بكل ما جاء عن الله تعالى كما في قوله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)آل عمران:٧/8.

وما أجمل ما قاله الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى في ذلك حيث قال :(ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام)

4/ تفريج الكروب وإزالة الهموم والغموم:

ولئن كان التسليم لله من مقامات الدين العظيمة وتشتمل على الإسلام والإيمان والإحسان كل بحسبه ومقتضياته ، فإن ذلك يثمر أحوالا وهبات ربانية ، فقد رأينا فيما سبق قصة إبراهيم مع ابنه كيف جعل الله لهما فرجا ومخرجا مما كانا فيه من بلاء عظيم ، لأنهما صدقا في التسليم وحصل الانقياد المطلوب فجعل الله لهما بدلا ليكون ذبيحا (وفديناه بذبح عظيم)، وقد نص القرآن الكريم على ارتباط التقوى بالمخارج من كل كرب وتيسير سبل الرزق وتكفير السيئات وترتب الأجر والثواب الجزيل كما في قوله تعالى:(وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجࣰا* وَیَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَحۡتَسِبُۚ) الطلاق/٢-3، (وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ یُسۡرࣰا) الطلاق/٤، (ذَ ٰ⁠لِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥۤ إِلَیۡكُمۡۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَیِّـَٔاتِهِۦ وَیُعۡظِمۡ لَهُۥۤ أَجۡرًا) الطلاق/٥

4/ السعادة الأبدية ودخول الجنة:

أن من أعظم ثمرات التسليم لله تعالى الفوز برضوان الله ودخول جنته، ويا لها من ثمرة عظيمة لا يعدلها شيء من متع ولذات الدنيا، فدخول الجنة ليس بالأمنيات الكاذبة والدعاوى العريضة بلا أساس أو برهان، بل بالتسليم المطلق لله تعالى علما وعملا كما في قوله تعالى:(بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَلَهُۥۤ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ) البقرة /112.

ومسك الختام في هذه المقالة ما قاله المجاهد الراحل / علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب:( للطبيعة حتمية تحكمها، وللإنسان قدره، والتسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية العليا للإسلام) ص /371.

والحمد لله رب العالمين

د.حسن سلمان

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *