بقلم الدكتور/ حسن سلمان
توطئة:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ليكون للعالمين نذيرا ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين هاديا ودليلا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، حيث أقام للحق دعوة ودولة وحضارة ، وهدم الله به الباطل وبدد به الظلمات ، وأنار به الدنيا فخرج الناس به من الظلمات والضلال إلى النور والهدى، ومن الشرك والكفر إلى التوحيد والإيمان ، ومن التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، فكانت رسالته هدى ورحمة للعالمين، وميزان عدل وقسط للمختلفين المتباينين ومظلة سلام يفيء إليها الباحثون عن المعنى الأبدي للوجود ، بعيدا عن مذاهب التيه وطرائق الضياع والشتات ، بحثا عن الحقيقة وبراهينها بالعقل والنقل والحس والتجربة دون سطوة الإكراه المادي والمعنوي لفرض العقائد والتصورات وفتنة الناس في دينهم ودنياهم.
علم العلاقات الدولية في سياق العلوم الوضعية يعد علما حديثا لم يتبلور في صورته المستقلة إلا في أواسط القرن العشرين وهو العلم الذي يدرس مكونات المجتمع الدولي ذات الــتأثير السياسي وبالتالي فمدار علم العلاقات الدولية هو الدول في علاقاتها الخارجية ولا تعلق له بالسياسات الداخلية ويدخل في ذلك جملة من الموضوعات ذات الطابع الدولي من مؤسسات ونظم وسياسات وقوانين ونظريات وغيرها.
وأما علم العلاقات الدولية في السياق الإسلامي فهو علم مبكر نشأ ليجيب عن التساؤلات التي اقتضتها طبيعة الفتوح الإسلامي في مساحات كبيرة وطبيعة العلاقات بين الولاية الإسلامية العامة (الخلافة) وغيرها من الأمم، وكان رائد هذا العلم الإمام محمد بن الحسن الشيباني
(صاحب أبي حنيفة) من خلال كتابه -السير الكبير – فقد بلور من خلاله أصول العلاقات الدولية وسبقت الأمة المسلمة بذلك غيرها من الأمم في هذا المجال وإن اختلفت طبيعة الموضوعات التي يدرسها في الإطار الإسلامي فهو يتناول علاقات الدول والأمم ببعضها سلما أو حربا كما يتناول علاقات غير المسلمين في الدولة الإسلامية خلافا لطريقة التناول المعاصرة، وبما أن العلاقات الدولية ودراستها واسعة ومتشعبة يصعب اختزالها في مقال محكوم بسياقات محددة كما وكيفا ، وعليه سيتم في هذا المقال تناول الرؤية العقدية والفلسفية للعلاقات الدولية في الإسلام على أمل أن نواصل في الحديث عن القيم الحاكمة للعلاقات في مقال آخر -إن شاء الله تعالى-.
وإن النظر في مسألة العلاقات الدولية ودراستها تتطلب معرفة حقيقة الإنسان وطبيعته، هذا الكائن ذو الطبيعة المتفردة، التي تتسم بالمشيئة والفاعلية في إطار المشيئة الإلهية العامة والمطلقة، فلا هو كائن ملائكي مفطور على الطاعة ومسخر لها، ولا هو مخلوق شيطاني شرير لا يصدر عنه الخير مطلقا، ولا هو كائن طبيعي ينتسب إلى عوالم الأشياء التي هي محكومة بمنطق سنني حتمي لا يحيد عنه، فالإنسان مخلوق هيأه الله تعالى لتكون له القابلية على فعل الخير والشر قال تعالى:(قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا) الشمس ٩-١٠، ولكن عمليا نجد الإنسان كثير التجاوز والتعدي والميل نحو الشرور إلا أن يصده عن ذلك العجز الذاتي أو الخوف من الردع والدفع الخارجي ، وهو ما نبه إليه أبو الوفاء ابن عقيل قائلا:( رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز ، ولا أٌقول العوام بل العلماء) الفروع لابن مفلح/ج-3ص22 ، وهو حقيقة الوصف الإنساني عندما لا ينضبط بالشرع ولا يلتزم بالفطرة السوية ، قال تعالى:(إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا) الأحزاب /٧٢ ، وإذا كان هذا حال الإنسان وطبيعته وهو الواقع الذي نشاهده في حياتنا فإن أمر الدول لا يختلف عن أحوال الناس كثيرا ،لأن الدولة ليست لها شخصية مادية مستقلة عن الأفراد بل هي مجرد أداة في يد الإنسان وما هو أصل وطبع في الإنسان فهو أظهر في الدولة وأقوى لأن الدولة تتمتع بقدرات وسلطات هائلة لا يتمتع بها الفرد وهو ما نشاهده في العلاقات الدولية من تجاوزات وعداوات واستخدام للقوة لفرض الخيارات ونهب الموارد والثروات ، ولهذا جاءت الشريعة جامعة في أحكامها بين تشخيص الإنسان ونوازعه المختلفة ، باعتباره الفاعل الأهم في الاستخلاف والعمران ثم الارتقاء به ومعالجة اختلالاته ومنع عدوانه وفساده في مثالية واقعية تنشد الكمال بحسب الإمكان ، ونحاول في هذا المقال تناول بعض المعالم الأساسية حول العلاقات الدولية -الكونية- في الإسلام ورؤيتها العقدية ومنظورها الفلسفي ، وكيف يمكن لحركة الإسلام أن تكون فاعلة ومنفعلة بالمدافعات الدولية من خلال منظومتها الخاصة دون حالة الذوبان في منظومة الآخر ومؤسساته ، فتتحول الأمة الرسالية صاحبة الكتاب الخاتم إلى مجرد أدوات مستخدمة في مشاريع وسياسات القوى العالمية صاحبة النفوذ الأكبر في النظام الدولي المختل نشأة وتأسيسا وسلوكا وممارسة.
أولا: الحكمة من ظاهرة التنوع البشري:
اقتضت الحكمة الربانية إلى وجود التنوع والتعدد البشري كما تشير لذلك كثير من الآيات القرآنية وأنه مقتضى المشيئة الإلهية، ويتخذ هذا التنوع أشكالا عدة:
التنوع الجنسي: كما في قوله تعالى (وَلَیۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ) آل عمران: 33-
– التنوع العرقي والقومي: كما يتبدى في قوله تعالى (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ ) الحجرات:13
– التنوع اللغوي والإثني: كما في قوله جل شأنه (وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ) الروم:22
– التنوع الديني: ويبدو في قوله تعالى (إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ یَفۡصِلُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ) الحج:17، وكذلك في قوله تعالى: (وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ *إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَ ٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ ) هود ١١٨-١١٩
وقد اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:”ذَلِكَ“ فَقِيلَ:﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾، وَلِلرَّحْمَةِ ”خَلَقَهم“، والتَّحْقِيقُ كما أختاره العلامة الشنقيطي في تفسيره أنَّ المُشارَ إلَيْهِ هو اخْتِلافُهم إلى شَقِيٌّ وسَعِيدٍ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ ولِذَلِكَ الِاخْتِلافِ خَلَقَهم فَخَلَقَ فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ وفَرِيقًا لِلسَّعِيرِ)
ولما كان الخلق الإنساني متنوعا قدرا وكونا، وأن هذا التنوع قد يؤدي إلى الاختلاف والتجاوز والعدوان والتهارج والفساد، وهذا يتنافى مع الغاية المرادة للشارع من هذا التنوع وهي تحقيق (التعارف) الذي ورد في قوله تعالى (لتعارفوا) وأن التعارف مبناه على التواصل والتفاهم وفتح قنوات الحوار وصولا للمعروف واجتنابا للمنكر وبحثا في المشتركات النافعة ثم التعاون عليها، تحقيقا لمصالح العباد ودفعا للمفاسد عنهم، ومصداق ذلك قوله تعالى:( وتعاونوا….) هذه هي الغاية التي رسمها الشارع للتعامل مع ظاهرة التنوع البشري بأنواعه المختلفة تحقيقا للاستخلاف والتمكين المؤدي لعبادة الله تعالى والعمران في الأرض والحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة.
ولما كان الناس مختلفين في تصوراتهم ومفاهيمهم ومنطلقاتهم ونظرتهم للحياة ولموقعهم فيها ومصيرهم المستقبلي، فإن الشارع جل جلاله لم يترك أمر الناس هملا بلا هداية وجهلا في عماية، بل تتابع الرسل والرسالات منذ اللحظة الأولى لوجود البشر على وجه الأرض، لضبط بوصلة تفكيرهم وتحديد مسار عملهم سواء على الصعد الفردية أو الجماعية، وقد تطور الخطاب الديني مع تطور البشرية وأنماط حياتها بدءً من الأسرة ووصولا إلى التعارف الإنساني والانفتاح الكوني على النحو التالي:
- انتقل الخطاب الديني بالإنسان من المشاهد والمشخص والتواصل المستمر مع السماء في تجدد دائم في الرسالات السابقة إلى التجريد والغيب في الرسالة الخاتمة ليكون مدخلها قوله تعالى:(ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ) البقرة/3 ، وهي السمة البارزة في الرسالة الخاتمة وبالتالي توقف الوحي والتتابع السماوي المباشر ليكون الكتاب المنزل هو العلاقة المستمرة مع السماء(حاكمية الكتاب) ، ولئن كانت الرسالات السابقة يقوم سلطانها الدنيوي باختيار الله تعالى وهم الأنبياء الساسة ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي) متفق عليه، فإن الرسالة الخاتمة يقوم أمرها وسلطانها الدنيوي على اختيار الأمة ورضاها وشوراها في إطار حاكمية الكتاب.
- وانتقل الخطاب الديني عبر مسيرته التاريخية من المحلية إلى العالمية فاتسعت رقعة الدعوة وميدانها (عالمية الخطاب) قال تعالى 🙁 وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ ) الأنبياء/107، كما انتقل الخطاب من القومية إلى الإنسانية فبدلا من الخطاب بمفردة ( يا قوم ) تحول الخطاب إلى ( يا أيها الناس ) وهو أول نداء في القرآن الكريم في سورة البقرة إيذانا بالعالمية والإنسانية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ) البخاري ومسلم
- وانتقل الخطاب الرسالي من شرعة الأغلال والآصار التي سادت الخطاب الموجه لبني إسرائيل إلى شرعة التيسير والرحمة التي هي خاصية الأمة الخاتمة ورسولها قال تعالى: ( وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ) الأعراف /157، ( یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ) البقرة /185، (یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا) النساء/ 28.
- وانتقل الخطاب من المعجزات والبينات والبصائر المادية المرتبطة بالرسول وحياته إلى معجزة القرآن الخالدة والقائمة على حقائق العلم وقوة الحجة ومنطق المناظرة والحوار، ليخاطب عقل الإنسان كما يخاطب وجدانه قال تعالى (سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ) فصلت /53
وخلاصة القول فإن الخطاب الديني الهادي للبشرية والموجه لمسيرتها الطويلة بلغ تمامه وكماله في الرسالة العالمية التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام ، فصار الإنسان حيثما كان هو موضوع الرسالة والأرض حيثما كانت هي مجال تمددها وانتشارها ، بخصائصها المتعددة القائمة على أساس تقرير الحق وتنزيل الأمر وتبصير الخلق بالعاجل والآجل أي (المسيرة والمصير) ، في تواصل وتعارف إنساني بقصد الهداية والصلاح تصورا وممارسة في كافة سياقات الحياة الإنسانية، وبناءً على ذلك ندلف إلى الحديث عن العلاقات الإنسانية والدولية في الإسلام.
ثانيا: الرؤية العقدية والفلسفية للسياسة الدولية في الإسلام:
ترتكز المنظومات السياسية المحلية والدولية على منظور فلسفي وتصور عقائدي يحكم حركتها ويحدد قيمها ويضبط مسارات عملها ، حتى ولو ادعت بأنها متحررة من قيود الأيدولوجيا وأحكام الأديان ، ومحكومة بمنطق المصالح المحضة ، وإذا كان الأمر كذلك فإن العلاقات الدولية أو الكونية والإنسانية في الإسلام ترتكز على تصور عقدي عماده الرسالة الهادية المعبرة عن مراد الله تعالى في الوجود البشري والطبيعي والذي هو 🙁 حاكمية الكتاب) فهو خطاب يحمل رؤية متعالية خارج منظومة الصراعات والحظوظ البينية للخلق ليفصل بين النزاعات ويقسم الحقوق بعيدا عن منطق الأقوياء والضعفاء ، والأقليات والأكثريات ، أو الانتماءات الأرضية المختلفة ، وترتكز الرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية على ثلاث مرتكزات أساسية تحكمها وهي:
1/ وحدة الدين وحرية العقائد:
الإسلام ينطلق في رؤيته للوجود بأن لهذا الكون خالق مدبر مريد حاكم ، وله غاية وحكمة من خلقه للوجود وهذه الغاية هي التعرف عليه والخضوع لأمره وعبادته الواحد الأحد دون شريك ، وأنه لا مجال للعبثية والعدمية والجهالة في المسيرة والمصير ، ولأجل ذلك بعث الله الرسل وأنزل الكتب هادية للناس ومبينة لهم طرائق العيش في الدنيا وسبيل الفوز في الآخرة، وعليه فإن التوحيد هو الفكرة المركزية في طبيعة الدين المنزل ، وهي الجامعة بين الرسالات كافة وموحدة لأصولها ومصدرها ، وهذا الدين الواحد هو الإسلام الذي يدعو الناس جميعا الى توحيد الخالق ووحدة الأصل البشري ، وإن تعددت شرائعه ونحله وفي أي علاقة خاصة أو عامة يتم مراعاة هذا الأصل العظيم الذي يخاطب البشرية كافة دون حواجز مانعة من التوحد تحت راية التوحيد التي تتلاشى معها كافة أشكال الطبقية والتفاوت والاستعلاء والاستكبار في الأرض قال تعالى:( إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ)
آل عمران/١٩، وقال تعالى:(شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤۖ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِینَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَیۡهِۚ ٱللَّهُ یَجۡتَبِیۤ إِلَیۡهِ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَن یُنِیبُ) الشورى/ 13
وهذا يعني الالتقاء على كلمة سواء وهي كلمة التوحيد والإيمان ومفارقة الشرك والكفر، وترك كافة أشكال العلو في الأرض المانعة من الاستخلاف وعمارة الأرض ومناقضة لمقصود الشارع في الوجود قال تعالى:(قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ) آل عمران/٦٤، ولكن الواقع البشري نجده بخلاف ذلك فالناس عمليا لا يتفقون على توحيد الله تعالى والتزام شرعه وبهذا يحصل التفرق في الدين وبالتبع التفرق في السياسة داخليا وخارجيا ، ومع ذلك يظل الإسلام متمسكا بوحدة الدين الرباني المقبول (دين الحق) ولكنه يقر بتعددية العقائد والأفكار وتعددية الأمم كذلك ، لأنه لا يحمل الناس على الإكراه في الدين وتنشأ بذلك رؤيته القائمة على الأمة ذات الرسالة الواحدة وهي الأمة المسلمة وولايتها على نفسها في الأرض التي تخضع لسلطانها ، وتحكم فيها شريعتها وتسمى دار الإسلام ، وفي مقابلها تكون دور الكفر بغض النظر عن موقفها من الإسلام والمسلمين حربا وسلما ، وهنا نشير بأن الإسلام يعتمد منظور الأمة باعتبارها الوحدة التي يدرس من خلالها السياسة الداخلية والعلاقات الخارجية ولا يعتمد منظور الدولة القطرية أو القومية ، حتى ولو تعامل معها اضطرارا في طريق الانتقال للمنظور الأممي في العلاقات الدولية أو الكونية ، ويتم التعامل مع هذا التعدد الديني والتنوع العقدي بأنه ابتلاء يجب تجاوزه نحو التوحيد والوحدة والإخاء الإيماني المحقق للاستخلاف والعمران من خلال التعارف والتعاون على الخير العام والمدافعة لمنع الشر والعدوان.
2/ وحدة الجنس البشري:
الإسلام يقرر بأن البشرية كلها من أصل واحد وهو آدم عليه السلام الكائن من طين وتراب، وهذا الأصل تفرع عنه زوجه ومن الزوجين تكاثرت البشرية شعوبا وقبائل ، ووحدة الأصل الإنساني يلغي كافة نظريات النقاء والاستعلاء العرقي والاستحقاق المبني على ذلك ، فلا تفاضل بين الشعوب والأفراد إلا بمعيار شرعي وهو التقوى الذي يمكن لكل مكلف السباق في مضمارها من خلال الصلاح الذاتي والإصلاح المجتمعي، قال تعالى:( یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰحِدَةࣲ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالࣰا كَثِیرࣰا وَنِسَاۤءࣰۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبࣰا) النساء/1، والنص القرآني يقرر وحدة الأصل البشري ووحدة الخالق الذي ينتمي إليه الخلق جميعا ، ولزوم تقواه برعاية الحقوق والتزام الحدود وترك البغي والعدوان ، مهما تنوعت دوافعه، وبما أنهم جاؤوا إلى الوجود والحياة على وجه هذه الأرض بإرادة الله تعالى الكونية والخلقية فإنه يجب عليهم التزام إرادته الشرعية في كيفية العيش لتحقيق الاستخلاف المراد ، وبهذا يتم تجاوز كافة النظريات السائدة في العلاقات الدولية والمنطلقة من المنطلقات القومية والعنصرية والمصلحية لأنها تهدم وحدة الأصل البشري وتغيب معها المسؤولية الأخلاقية تجاه خالق الوجود ، ومع غياب هذا المنطلق تنحرف العلاقات الإنسانية وتؤسس على مفاهيم وقيم بعيدة عن الهدي الراشد والفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وبالتالي فإن الوضع الطبيعي للإنسان هو الاعتراف بالخالق وهداياته للبشرية والتفاعل معه توحيدا لله تعالى ووحدة مع سائر البشر ، خلافا للنظريات الوضعية التي تعتبر الوضع الطبيعي هي حالة الجهالة والقطيعة مع الله والوحي المنزل مخالفة بذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ولهذا فالتاريخ البشري بحسب السردية القرآنية هو تاريخ أديان اتفاقا واختلافا وأن الاختلاف في أصله مع العلم المنزل من الله تعالى بغيا بين الناس واتباعا للأهواء البشرية قال تعالى:( كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ فِیمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِیهِ إِلَّا ٱلَّذِینَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمٍ) البقرة/ 213
وخلاصة القول فإن وحدة الأصل البشري تعد من أهم أصول ومرتكزات العلاقات الدولية ، والسياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية والتي مبناها على السلوك الإنساني صلاحا وفسادا ، وأن الصراعات الخارجية في أساسها تعود للنفس البشرية وما فيها من خير أو شر وبالتالي فصلاح العلاقات واستقامتها يعود لصلاح الإنسان القائم عليها ولذا فالسياسة الإسلامية داخلية كانت أم خارجية قوامها الأخلاق فهي سياسة أخلاقية وتصادم بطبيعة الحال السياسة غير الأخلاقية ذات الطابع العرقي العنصري المصلحي، وتنشأ بالتالي الصراعات الدولية العدوانية الباغية.
3/ الانتفاع بخيرات الأرض المشتركة:
يقرر الإسلام وحدة الوظيفة الإنسانية وغاية وجود الكائن البشري على وجه الأرض وهي الاستخلاف قال تعالى:(وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) البقرة/٣٠ ، ودلالات الخليفة تأتي بمعنى النيابة عن الغير أو الوكالة عنه وجمعها خلائف أو خلفاء وهم من يتلوا بعضهم بعضا أي التالي واللاحق الذي يأتي بعد آخر كما في قوله تعالى:( ثُمَّ جَعَلۡنَـٰكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ) يونس/١٤
والتأسيس المعرفي لهذا الأمر بهذه الصورة يعيدنا للرؤية الغيبية والاستناد على الوحي في معالجة العلاقات الإنسانية وأن العقل والعلم وحده لن يقيم علاقات راشدة وحاسمة للنزاعات لأن تحديد الخير والشر والصلاح والفساد لا يدخل تحتهما ، بل هو مما تتفاوت فيه الأنظار وتتباين فيه الرؤى والأفكار ، فكان لا بد من منظور متعال يفصل بين الناس ويحكم بينهم باليقين لا بالظن والوهم ، ولن يمتلك الإنسان اليقين في الأحكام الخارجة عن مجال العلم والعقل إلا بالوحي وهداياته المنزلة ، لأن الله تعالى كلي العلم وكلي الخير فشريعته صادرة عن علم وحكمة ومريدة للخير ومصالح العباد في العاجل والآجل، ولكن ثبت بالتجربة والواقع بأن الناس لا يسلمون بالوحي بل يختلفون حوله كثيرا بين مؤمن به وكافر ، وبطبيعة الحال سيكون الاختلاف حول أنماط الاستخلاف البشري بين استخلاف قائم على الحق والعدل والهدي الرباني وبين استخلاف قائم على الهوى والنظر الوضعي بدوافعه المختلفة، كما في قوله تعالى:(هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَیۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا یَزِیدُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتࣰاۖ وَلَا یَزِیدُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارࣰا)فاطر /39، والإسلام وهو ينطلق من وحدة الأصل البشري ووحدة وظيفته في الاستخلاف والعمران انطلاقا من الوحي والهدايات الربانية يتعامل مع التباينات والاختلافات الفردية والمجتمعية والأممية وينظمها تنظيما يحقق المصالح المشتركة بين البشر ، وهذه الشراكة الكونية لإعمار الأرض ينطلق فيها الإسلام من منظور قيمي يتيح للإنسان السعي لصلاح حاله في دينه ودنياه ، وفي حالة خروج البعض وانحرافه عن الاجتماع الإنساني الراشد المؤسس على الهدايات الرسالية يبقى منطق المدافعة الكونية بين الأمم، تدافعا يمنع التهارج والفساد ، ويحقق صلاح العمران والإنسان بحسب الإمكان ، ابتداء من الكلمة والجدال بالحسنى والمتاركة والصبر والعفو والهجر الجميل، وانتهاءً بالحرب والقتال المانع من الإثم والعدوان وفساد العمران قال تعالى:(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی قَرِیبࣱ مُّجِیبࣱ)هود/61
وخلاصة القول فإن الشراكة الكونية التي يسعى لها الإسلام لكافة البشرية ترتكز على منظومة قيم الحق والعدل والخير والجمال بما يؤدي لصلاح الإنسان والعمران موصولا بالله تعالى، ومتعاونا مع بقية البشر على ما ينفعهم ويحقق لهم الحياة الطيبة.