يُعَرَّفُ الكذب بأنه الإخبار بخلاف الواقع، بغض النظر عن مقاصد من صدر عنه، وقد يكذب الرجل وهو صدوق، إلا أنه سمع من كذوب فروى عنه، ولكن ليس كل من نقل الكذب هو كاذب في أصله، وإنما العهدة على الراوي، كما يقول الإمام الطبري، تبرئة لذمته، وتحميلا للمتلقي مسؤولية التحري، فيما ينقل إليه من الأخبار.
والوضاعون هم أكثر الناس كذبا، وهي صيغة المبالغة، والوضع في اللغة هو الكذب عينه، تقول: وضع الشيء وضعا إذا اختلقه، كما يعني الحَطَّ من القَدْرِ، والإنزال، والإنقاص، والإسقاط، والإلصاق.
ولا يخلو عصر أو مصر من الوضاعين، فهم ظاهرة اجتماعية، يكونون حيث يكون المجتمع، وإذا رأيتهم تعجبك أزياؤهم، ويبهرك حديثهم، وربما سيولة أقلامهم، يصولون ويجولون بين العامة والخاصة، يَعدُّونَ أنفسهم من النخبة.
وقد يكونون من المنتسبين إلى العلم وطلابه، وإلى الزهد والمرغبين فيه، وأحيانا هم من الزنادقة المندسين، أو المنتكسين، يبتغون إفساد الدين، وإذا ما صدقوا في قليل مما يُثقفون به، ويتثاقفون عليه، زجوا بينه الكثير من المكذوب، يقدمونه وكأنه هو الحق الذي لا مرية فيه، فكما يروي ابن الجوزي بسنده “وضعت الزنادقة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أربعة عشر ألف حديث[1]“.
وما أكثر ظهورهم اليوم على وسائل الإعلام، بل هم من يستحوذ عليها، بوصفها آلة التأثير الفكري والسياسي، ولبعض منهم من المهارة في الكتابة، والحذاقة في المحادثة، والقدرة على المحاورة والمجادلة واللحن بالحجة، ما يساعدهم في اختراق العقول، وتلويثها بما يفترون ويزورون أو يؤولون.
وفيهم الساذجون الذين لا يفقهون ما يقولون، وإنما يدندنون دون وعي، ويدونون دون تمحيص وتدقيق ومقارنات، كحاطب ليل، لا تسوى أسفارهم في محتواها المعرفي قيمة مدادها، يحدثون بالمتناقضات، ويقولون المضحكات، ويكثر هؤلاء في القصاصين منهم، يتحلق الناس حولهم، فيشوقونهم بالموضوعات.
ومن الوضاعين من تستبد به الوقاحة، فيوغل في الكذب بإطراء شخص ما، لمنفعة ما، بما ينسبونه إليه من حوادث ومواقف لم تقع منه أصلا، أو وقعت بأقل مما يبالغون ويجازفون، ومواهب لم يتصف بها واقعا؛ ليجعلوا منه شجاعا مقداما، في تاريخ الشجعان، يصارع الأسود في الغابات والنمور، ويسابق السيول في الوديان، والصخور في أعالي الجبال.
وغالبا ما يفعلون هذا مع الملوك والأمراء والخلفاء، من ذوي السلطان، ولو بالكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما فعل غياث بن إبراهيم، حين دخل إلى المهدي – وكان يحب الحمام – فروى له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح[2].
وقد يتوافقون على غير لقاء بينهم وتعاهد فيما يبثون من الموضوعات، مع تباعد الأقطار، وقد ينظمهم كيان جامع، من نحو مؤسسة تحشدهم كتابا ومحررين ومحللين إعلاميين، وقد يلتقون على عصبية لعشيرة أو قرية أو جهة، أو وطن، أو زعيم، وفي كل الأحوال هم الوضاعون، لهم أوصافهم التي بها يعرفون، يحسنون صناعة الأكاذيب، وتزوير الحقائق ثم تدويرها.
وهنا يجمح ببعضهم الخيال، عند الحديث عن أشخاص لهم بهم صلة منفعة أو عصبية، أو كلفوا بتسويقهم على الملأ، ولا يخجلون حينها من أن يجعلوا منه نجما لا يضاهى في حيازة المعرفة، واتقان الفنون العلمية، تلميعا له وترميزا؛ لأمر يقصدونه، فهو ابن جني في النحو، والزمخشري في البلاغة، وابن رشد في المنطق والفلسفة، وابن حزم في الأصول والفقه المقارن، وابن تيمية في صفاء العقيدة، ومحاربة البدعة، ومناضلة الخرافة.
وقد يدعون له اتصالا بأكابر العلماء في الأمصار، موثوق عندهم، ومزكى من قبلهم، بينما تاريخه العلمي – إن كان له تاريخ علمي – وجهده الدعوي، لا يثبتان له موعظة قالها في محفل، أو درسا أقامه في مسجد، أو سندا أجاز به في فن من الفنون، أو بدعة أنكرها على من تلبس بها، وكل ما حوله بدع وخرافات، أو حلقة علم أمها طلاب علم، ولا يعرف له كتاب ألفه فيما يزعم له النبوغ فيه من فنون العلم.
والأمر عينه تجده منهم في حديثهم عن القادة العسكريين، يروون عن الواحد منهم بطولات ليست من تاريخه، وإنما هم من يضعها ويصنعها، وإذا ما حللت مقولاتهم في هذا وذاك، ممن يمجدونهم أو يقدحون فيهم، بمنطق التحليل العلمي، ألفيتها متهافتة متراخية، ليس لها سند تتكئ عليه، ولا يصدقها الواقع، ولكن يحدث منهم ذلك عندما تتغلب عليهم الإرادة الدعائية الإدعائية النفعية، على الإرادة العلمية الموضوعية، فهم في هذا مكيافيليون، الغاية عندهم تبرر الوسيلة.
ومن أشهر الوضاعين الذين عرفوا في تراثنا الاسلامي بالكذب، عصبية لما يعتنقون من أفكار، وما يعظمون من أفراد، وما ينتمون من مذهب، أبو مخنف لوط بن يحيى، فقد كان له الحظ الأوفى، والكعب الأعلى، في تزوير الأحداث التاريخية وتحريفها.
وعديدة هي الأسباب التي تقف من وراء هؤلاء الوضاعين؛ لتدفعهم إلى الكذب، لكن من أسوئها وأسخفها الحب والتعظيم، ومن هؤلاء نوح ابن أبي مريم، وقد دأب على وضع الأحاديث في فضائل السور القرآنية[3].
وأحيانا تبلغ الجرأة بنفر من هؤلاء الوضاعين إلى الاختفاء وتمرير أكاذيبهم بالتستر خلف تقريظ عالم معروف بالورع، ورصانة الفقه، وصدق الحديث، أو إعلامي بريء، يخفى عليه ما وراء الأَكَمَةِ، فيعرضون عليه ما سطروا، لا بحثا عن النقد والتصويب، وإنما حصولا على كلمة ثناء يتخذونها قنطرة إلى تضليل من يقرأ ما سطروا وصنفوا.
وفي مثل هؤلاء يقول ابن الجوزي: ” والعجب بهذا الذي بلغت به الوقاحة إلى أن يضيف مثل هذا – يعني من الأكاذيب – وما كفاه حتى عرضه على كبار الفقهاء، فكتبوا عليه تصويب ذلك التصنيف، فلا هو عرف أن مثل هذا محال، ولا هم عرفوا، وهذا جهل متوفر، عَلِمَ به أنه من أجهل الجهال الذين ما شمُّوا ريح النقل، ولعله قد سمعه من بعض الطرقيين [4]“.
ولابن الجوزي – رحمه الله – تجربة مع وقاحة هؤلاء المنتحلين للمعرفة، والملتصقين بها، تعكس سخافتهم، يرويها لنا بقوله: ” وما أكثر ما يعرض عَلَيَّ، أحاديث في مجلس الوعظ، قد ذكرها قصاص الزمان، فأردها عليهم وأبين أنها محال، فيحقدون علي حين أبين عيوب شغلهم [5]“.
وما كان حقدهم هذا عليه إلا لأنه نقد مروياتهم ونفضها، وما سمح لهم بتمريرها أبدا؛ لكونها بضاعة مغشوشة ومضللة، ومن ضروريات حماية المعرفة التصدي لها بكشفها، فهي كالعملة المزورة، تروج بين الناس عند فقد وغياب العملة الحقيقية، وكما تخرب هذه الاقتصاد، كذلك مرويات الوضاعين، تخرب الفكر والاعتقاد، وليس بمؤتمن من غش، كما في حديث مسلم: من غش فليس منا.
ولتجدنهم اليوم بكثرة، يجوبون الطرقات والمكتبات، يعرضون البضاعة الفاسدة، يلفقون ولا يوثقون، تنقصهم الأمانة العلمية، فَيَظْلِمُون المعرفة ويُظْلِمُونَها، ويكرسون الجهل، وتتحكم عليهم عواطفهم ومصالحهم وعصبياتهم، وفوق ذلك يروجون لأباطيلهم بوقاحة لا نظير لها، وهنا تكمن خطورتهم، ويتأكد عدم التسامح معهم، فهم قوم لا خلاق لهم في الآخرة، ولا أخلاق لهم في الدنيا، ويجب فضحهم.
وما أحسن قول ابن الجوزي في هذا ” ولقد رد الله كيد هؤلاء الوضاعين والكذابين بأخبار أخيار فضحوهم وكشفوا قبايحهم، وما كذب أحد قط إلا وافتضح، ويكفي الكاذب أن القلوب تأبى قبول قلبه، فإن الباطل مظلم، وعلى الحق نور، وهذا في العاجل، وأما في الآخرة فخسرانهم فيها متحقق [6]“.
ولأن أرحام المطابع ما زالت تدفع بالغث والسمين، فليس كل ما يصلنا منها يحمل الحقيقة، ويحترم العقل، ويحفظ للتاريخ حرمته، وللقلم مصداقيته، وللموضوعية وجودها، وأن القراءة الفاحصة، والتفكير النقدي، هما أقوى ما يعصمنا من أذاها، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالتاريخ، ومناقب الأشخاص.
وقد كتب السخاوي في نقده للتاج السبكي، عندما وجده يتحامل على الحنابلة، عصبية للأشاعرة، فقال فيه: ” وهذا من أعجب العجاب … ولذا كتب تحت خطه بعد مدة، قاضي عصرنا، وشيخ المذهب العز الكناني، ما نصه ” وكذا والله ما ارتفع للمعطلة رأس ” ثم وصف التاجَ بقوله: هو رجل قليل الأدب، عديم الإنصاف، جاهل بأهل السنة ورتبهم، يدلك على ذلك كلامه[7]“.
ويتوهم بعض الوضاعين من المتصوفة، أن تاريخ الهداية في هذه القرية أو تلك، أو في هذا العصر أو ذاك، يبدأ من شيخهم وإليه ينتهي، وحتى يرفعوا من قدره، ويعلوا من شأنه، يروون فيه المختلقات والمنكورات مما يسمونه الكرامات.
وآخرون من غيرهم يفعلون أيضا مثل فعلهم، ولكن بوسائل أخرى يفطنون لها، ويلجؤون إليها، يحسبون أنها تسد ما يرونه نقصا في شيخهم، وقد يكون لهذا الشيخ بعض الإنجازات التي تغنيه عن الذي يضعه له الوضاعون بتلفيقاتهم وابتكاراتهم.
وهذا عيب كبير جدا، لا يتورط فيه عاقل، وخلل عظيم في صياغة المعرفة وضبطها، يتنزه عنه كل حفيظ عليم، وكل قوي أمين، والدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء.
وواجبنا – نحن معشر القراء والمثقفين – نحو ما يقع بين أيدينا من تلفيقات الوضاعين وتنميقاتهم، النفور والتنفير، وعدم المعاضدة بالتقريظ، واحتقار من تلبس به؛ لكونه لا يحترم عقولنا، ويحاول تضليل مجتمعنا، ولن يرتقي ويتقدم مجتمع رواده الوضاعون، وفي الوقت نفسه لن يسودونه أبدا ما كان النقاد الموضوعيون حماته.
ومن البداهة هنا أن أُذَكِّرَ بما هو معلوم لدى الباحثين بالضرورة، من أنه لا قيمة لمؤلَّف ينقصه التوثيق والتحليل، ومعلوم أن التدوين وثائق وإسناد، ونقل بأمانة، وتجرد عن عواطف الحب والكراهية، والعصبية الجهوية أو القبلية؛ وخير ما يوقف الكاتب على مواطن الضعف فيما كتب هو تحكيم المتخصصين.
وأجمل ما أختم به المقال في هذا المقام، ما رواه الإمام ابن الجوزي بسنده ” عن محمد بن علي بن الغريق يقول: سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول: يا أهل بغداد لا تظنون أن أحدا يقدر يكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا حي [8]“.
ولنكن إذن كلنا أبا الحسن الدارقطني، لا يُسطى على المعرفة ويستباح حماها ونحن أحياء، ولا يتمكن الوضاعون من الكذب على مجتمعاتنا ونحن أيقاظ، ولا سيما حين يكون هذا الحمى هو حمى الدين، ويلحق هذا السطو ضررا بمعارفنا ونمط تفكيرنا.
وكتبه/ الأستاذ الدكتور جلال الدين محمد صالح
القاهرة
6/8/2024
[1] – ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، كتاب الموضوعات، تقديم وتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المدينة المنورة، المكتبة السلفية، ط، الأولى 1966م، ج 1 ص 38
[2] – المصدر نفسه 42
[3] – المصدر نفسه، ص 41
[4] – المصدر نفسه، ص 45
[5] – المصدر نفسه
[6] – المصدر نفسه، ص 48
[7] – السخاوي، محمد بن عبد الرحمن بن محمد شمس الدين، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ، تحقيق فرانز روزنثال، ترجمة الدكتور صالح أحمد العلي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط، الأولى 1986م، ص 94 – 95
[8] – المصدر نفسه، ص 45 – 46