بقلم الأستاذ الدكتور/ جلال الدين محمد صالح
يتميز الشيخ ابن سعدي بأكثر من ميزة اتصف بها، من أهمهما جمعه بين الأصالة والمعاصرة، ومن هذه الخاصية كان موصولا بعصره غير مفصول عنه، يدعو إلى التحرر من سيطرة الأمم الأجنبية، وإلى مقاومة الاستضعاف في المطالبة بالحقوق المسلوبة.
وفي هذا يقول: ” إن الأمة المستضعفة، ولو بلغت في الضعف ما بلغت، لا ينبغي أن يستولي عليها الكسل عن السعي في حقوقها، ولا اليأس من الارتقاء إلى أعلى الأمور، خصوصا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله بني إسرائيل على ضعفها واستعبادها لفرعون وملئه منهم، ومكنهم في الأرض وملكهم بلادهم، وأن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تطالب بحقها، لا يقوم لها أمر دينها، كما لا يقوم لها أمر دنياها [1]“.
وهو ما يفهم من كلامه أيضا عند تحديده لدار الاسلام من دار الكفر، بقوله : ” فبلاد الإسلام التي يحكمها المسلمون، وتجري فيها الأحكام الإسلامية، ويكون النفوذ فيها للمسلمين، ولو كان جمهور أهلها كفارا، وبلاد الكفر ضدها … وهي على نوعين: بلاد كفار حربيين، وبلاد كفار مهادنين … وكل أحد يعرف ولا يشك أن العراق والبحرين وغيرهما من البلاد المجاورة ونحوها من المستعمرات الإنجليزية، وأنهم هم الذين لهم النفوذ والحكم بها، ولكن يدخلون في الكفار المهادنين؛ لما بينهم وبين المسلمين من الأمان، في عدم تعدي أحدهما على الآخر[2]“.
ومعنى كلامه هذا أن المستعمر باحتلاله دار الإسلام، حولها إلى دار كفر، إذ صار له النفوذ والحكم فيها، وهو ما يوجب على الأمة استرجاعها منه بمقاومته، وضرب بالعراق والبحرين مثلا، إلا أن الإشكال في قوله: ” ولكن يدخلون في الكفار المهادنين؛ لما بينهم وبين المسلمين من الأمان في عدم تعدي أحدهما على الآخر”.
وكيف يدخلون في الكفار المهادنين، وهم مستعمرون محتلون لأرض الإسلام حينها ؟ ومن هذا الإمام الشرعي الذي هادنهم من بعد أن حاربهم، باسم الإسلام والمسلمين، ممثلا الأمة وقد أسقطوا الخلافة الإسلامية، ونهبوا تركتها، وتقاسموها فيما بينهم؟.
وظني أن اجتهاده هذا آت من قصور في تصوره للحالة السياسية للأمة بأجمعها، والمسألة الاستعمارية التي حلت بها، وأنها جاءت ودار الإسلام بلا إمام يوحد بينها، فضلا من أن يهادن باسمها، وربما كان يعني بقوله ذاك أهل نجد وإمامهم الملك عبد العزيز، فهم القريبون من العراق والبحرين، حيث الانجليز هم المستعمرون، والملك عبد العزيز مهادن لهم.
وحتى اليوم ما زال هذا الواجب الشرعي قائما، حسب الاستطاعة، وبالقدرات الممكنة، فللإستعمار نفوذ ظاهر على دار الإسلام، عبر وكلائه الذين خلفهم من ورائه، وأوهم الشعوب بتحررها منه؛ لمجرد أنها علَّقت خرقة هي من صنعه وتصميمه، محل خرقته الاستعمارية، وصارت لها جيوش تعزف النشيد الوطني، تحت هذه الخرقة، في حين ولاؤها للمستعمر، وتسليحها من المستعمر، وميزانيتها من المستعمر، وتشريعها من المستعمر، وحماية نظامها السياسي من المستعمر، وترفض بوحي منه وإلزام، أن يكون الإسلام هو شريعتها، ورائد تحررها من قبضته المحكمة على الرقاب.
ومع ذلك القصور– حسب فهمي لكلام الشيخ ابن سعدي – في تصوره للمسألة الاستعمارية، أراه أكثر إدراكا، وأحسن وعيا، بأهمية معرفة السياسة، حين دعانا إلى الاهتمام بالسياسة المعاصرة، حتى نعرف مكر سياسات المستعمر وخبثها، نحو دار الإسلام.
وفي هذا يقول: ” قد علم من قواعد الدين، أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، ولا يخفى أنه لا يتم التحرر من أضرار الأمم الأجنبية، والتوقي لشرورها، إلا بالوقوف على مقاصدهم، ودرس أحوالهم وسياساتهم، وخصوصا السياسة الموجهة منهم للمسلمين، فإن السياسة الدولية قد أسست على المكر والخداع وعدم الوفاء واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد، فجهل المسلمين بها نقص كبير، وضرر خطير، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها التي ترمي إليها نفعه عظيم، وفيه دفع للشر أو تخفيفه، وبه يعرف المسلمون، كيف يقابلون كل خطر؛ ولهذا كان من أركان السياسة والقيادة، المعرفة والوقوف التام على أحوال الأعداء، فالسياسة الداخلية لا تتمم إلا بإحكام السياسة الخارجية[3]“.
وكما هو واضح من كلامه، يشدد السعدي على ضرورة التعرف على خبايا السياسة الدولية ودفينها، واتخاذ ذلك سبيلا إلى التحرر من الهيمنة الأجنبية، ويصور هذه الهيمنة على صورتها الحقيقية، استعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد، ونهب خيراتها، وهو هنا يجسد وعيا متقدما بمفاهيم الوهابية المتجددة، لا مفاهيم الوهابية المتقزمة.
ومن وعيه هذا، وإدراكه لرسالة عالم الشريعة في الحياة، ما عزل نفسه، ولا نآى بها عن متابعة السياسة الدولية، فقد تحسس أخبارها، وتتبع أثرها، واهتم بمدافعاتها، وربما تأثر في ذلك بشيخه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وقد اتخذ من القصيم مستقرا له، حتى فارقه إلى الزبير، ودعا إلى مقاومة الإنجليز ومجاهدتهم، تحت لواء العثمانيين.
وقد وجد ابن سعدي، في المجلات الإسلامية المتوافقة معه في منهجها الدعوي، والتي ظلت تصدر حينها في القاهرة، وسيلة محفزة، ونافذة مناسبة، يطل من خلالها إلى التعرف على ما يجري حوله، ويتزود منها بما يعينه في فهم مكايد الأعداء، إذ كان له ” صلة بمجلة المنار التي يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا في القاهرة، ومجلة الفتح القاهرية التي يصدرها الشيخ محب الدين الخطيب، كانتا نافذتين له، يطلع منهما على أحوال العالم الإسلامي، ويتأثر بما يستفيده منهما[4]“. ولذا أن تصوره للاستبداد في الحكم، كان أكبر وأوسع من أن يكون مجرد استئثار بالسلطة، ذلك ما أبانه في تفسير قوله تعالى عن فرعون ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ الإعراف: ١٢٣ إذ قال: ” كان الخبيث حاكما مستبدا على الأبدان والأقوال، قد تقرر عنده وعندهم، أن قوله هو المطاع، وأمره نافذ فيهم، ولا خروج لأحد عن قوله وحكمه، وبهذه الحالة تنحط الأمم وتضعف عقولها ونفوذها، وتعجز عن المدافعة عن حقوقها، ولهذا قال الله عنه ( فاستخف قومه فأطاعوه ) وقال هنا ( آمنتم به قبل أن آذن لكم ) فهذا سوء أدب منكم وتجرؤ على [5]“.
[1] – السعدي، عبد الرحمن بن ناصر، تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، الرياض، وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط، 1422 هـ ص 226
[2] – السعدي، عبد الرحمن بن ناصر، المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، عنيزة، مرطز صالح بن صالح الثقافي، ط، الثانية، 1992م، ج 7 ص 68
[3] – السعدي، عبد الرحمن بن ناصر، المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السدي، عنيزة، مركز صالح بن صالح الثقافي، ط، الثانية 1992م، ج 1 ص 195
[4] – ابن عقيل، عبد الله بن عبد العزيز، الشيخ عبد الرحمن بن سعدي كما عرفته، اعتنى بإخراجه عبد الرحمن بن علي العسكر، الرياض، دار الوطن للنشر، ط، الأولى 2006 م، ص 13
[5] – السعدي، عبد الرحمن بن ناصر، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، اعتنى به تحقيقا ومقابلة عبد الرحمن بن معلا اللويحق، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط، الأولى 2002 م، ص 300