بقلم/ د.حسن سلمان
مقدمة:
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي الأمين وخاتم المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
إن من أعظم غايات القرآن الكريم غاية التعبد، والعبادة لأنها من كبرى الغايات فقد اهتم بها القرآن الكريم اهتماما بالغا ، وجعلها مدار كثير من التشريعات ، بل هي المقصد الأسمى والغاية العظمى لخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان، قال تعالى بيانا لعظمة هذا المطلوب الشرعي: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) [الذاريات: 56-57]، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل ٣٦] وقد بين الشارع الحكيم بأن خلق الجن والإنس لم يكن عبثا بلا غاية ولا هدف ، نافيا العبثية في أفعاله وأقواله جل جلاله حيث قال: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثࣰا وَأَنَّكُمۡ إِلَیۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ﴾ [المؤمنون ١١٥]، فالإنسان كائن مكلف ومسؤول وخُلِق لغاية عظيمة وهي تحقيق عبادة الله تعالى ولهذا فقد كان أول نداء قرآني ورد في كتاب الله تعالى هو النداء المتعلق بعبادة الله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة ٢١].
وهذه الغاية العظيمة تتحقق بالعديد من الغايات التي هي دونها في الترتيب ولكنها بمجموعها تشكل نهر العبادة الجاري في غالب التشريعات ، وبالرغم من عظمة هذه المفرد القرآنية -مفردة العبادة- ولكن النفس البشرية تنفر من كلمة تعبد أو كلمة عبادة أو كلمة عبد وذلك لما رأى الناس من ظاهرة العبودية وظاهرة الرق التي كانت متفشية في التجربة البشرية والتاريخ البشري و لا زالت آثار هذه الظاهرة منتشرة في الكثير من البلدان وإن كانت قد أخذت أشكالا مختلفة وأنماطا متعددة غطت على ما يمكن أن نسميه سلوكيات رق واستعباد، وذلك بالعديد من الإجراءات التي تخفي المظاهر ولا تنفي جوهر الظاهرة ، ولكن مقصد التعبد في الشريعة هو مقام تكريم وتشريف لأنه متعلق بالعلاقة مع الله الخالق الرب الملك ،فهو مقام رفعة ولن يتحقق إلا بالتحرر من كافة أشكال الاستعباد لغير الله تعالى رغبة أو رهبة فكمال الحرية الإنسانية بكمال التعبد والتجرد لله تعالى والتخلص من كافة أنماط الذل والهوان والعبودية لغير الله تعالى ، وقد أنشد القاضي عياض رحمه الله قائلا:
ومـما زادني شـرفـاً وتـيــهـاً…
وكدت بأخمصي أطأ الـثريا ….
دخولي تحت قولك يا عبادي…
وأن صـيَّرت أحمد لي نـبيـا…
فلا أعظم من أن يكون الإنسان عبدا لله تعالى اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا، وهذه العبادية التي ينادي الله بها عباده كما في قوله ” فبشر عباد ” ” يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ” “والله رؤوف بالعباد” تحمل معنى الحرية والمشيئة والاختيار ، وترد غالبا في السياق الدنيوي بينما نجد مفردة “عبيد” تحمل معنى القهر والجبروت والملك “لمن الملك اليوم لله الواحد القهار” وهي مفردة واردة في السياق الأخروي أي يوم القيامة ، كما في قوله تعالى “وأن الله ليس بظلام للعبيد” وما ربك بظلام للعبيد” فالسياق الأخروي قائم على القهر والجبر بينما السياق الدنيوي فيه مجال للحرية والاختيار والمشيئة مع تحمل تبعة ذلك من المسؤولية في الدنيا والآخرة ، حتى قضية الإيمان وهي أعظم القضايا الشرعية لم يجبر الشارع الناس عليها جبرا ، بل ترك لهم الاختيار ومنع الرسل والأنبياء من إجبار الناس على الدين الحق كما في قوله تعالى: ﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ یَكُونُوا۟ مُؤۡمِنِینَ﴾ [يونس ٩٩]، ﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّۚ فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾ [البقرة ٢٥٦]، (لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ) الغاشية/22، (نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا یَقُولُونَۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِجَبَّارࣲۖ فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن یَخَافُ وَعِیدِ) ق/45، وقد ذهب الخليل بن أحمد في كتاب (العين) إلى التفريق بين ( العباد) و( العبيد) فالعبيد هم المملوكون … ولم نسمعهم يشتقون منه فعلا .. وأما عبد يعبد عبادة فلا يقال إلا لمن يعبد الله، وتعبَّد تعبُّدا أي: تفرَّد بالعبادة).
والقرآن الكريم جعل غاية التعبد لله تعالى هي الكلمة السواء وهو النداء الرباني العالمي للبشرية ، وهو القاسم المشترك الذي يجب أن تسعى إليه البشرية كلها، كما في قوله تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون ) آل عمران/64 ، وظاهرة الأرباب من دون الله هي من الظواهر السائدة قديما وحديثا ، وهي نوع من أنواع الاستعباد يمارسه الكبراء والأقوياء على الضعفاء أو الذين ارتضوا الذل والهوان والعبودية لغير الله تعالى ، وأما الإسلام فقد جاء رسالة تحرير من كافة أشكال العبودية لغير الله تعالى سواء في العقائد والتصورات أو الشعائر التعبدية أو المعاملات الحياتية والمعاشية ، وبهذا فإن الإسلام هو رسالة الحرية الحقيقية النابعة من عمق النفس البشرية اختيارا دون إكراه أو تسلط ، وهو حمل للرسالة وتبليغها للعالمين وفي سبيلها يبذل المسلم كل غال ونفيس في سبيل الله تعالى بما فيها نفسه التي بين جنبيه وهو أعلى حالات التضحية والفداء النابعة من الذات الحرة.
والمصطلحات تحتاج إلى تحرير وتجريد وتحديد وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمصطلح القرآني لأنه قد يكون مطابقا للاصطلاح اللغوي وقد يزيد عليه أو ينقص عنه ويقل، ولذا فمعرفة الدلالة الشرعية مهمة لمعرفة خطاب الشارع ومراده قبل العمل به لأن العمل يتوقف على معرفة المطلوب شرعا، فما المراد بالعبادة في لغة العرب واصطلاح الشرع.
العبادة لغة واصطلاحا:
1/ العبادة لغة: مشتقة من الجذر اللغوي (ع. ب. د) قال ابن فارس في مقاييس اللغة (عبد) العين والباء والدال: أصلان صحيحان كأنهما متضادان الأول يدل على: لين وذُل ومنه العبد وهو المملوك والبعير المعبد أي: المهنوء بالقطران لأن ذلك يذله ويخفض منه، ومنه الطريق المعبد وهو المسلوك المذلل، والآخر يدل على: شدة وغلظة ومنه: العبدة وهي القوة والصلابة يقال هذا ثوب له عبدةٌ إذا كان صفيقا قوياً).
2/ العبادة اصطلاحا:
المعنى الاصطلاحي للعبادة ليس بعيدا عن المعنى اللغوي الذي تقدم ولكن هناك بعض الإضافات التي ذكرها العلماء مع اللين والذُل ومنها (التعظيم) فالعبادة هي غاية التعظيم ومتى ما فُقد التعظيم فُقدت العبادة، ومما يضاف لما سبق كذلك معنى المحبة فالذل بغير حب لا يكون عبادة، وقد جمع العلامة ابن القيم في كتابه مدارج السالكين بين الذل والحب والخضوع في معنى العبادة فقال: (وحقيقة العبودية: الحبُّ التام، مع الذل التام، والخضوع للمحبوب).
ونخلص في معنى العبادة لكلام جامع ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مفتتح (رسالة العبودية) حيث عرف العبادة قائلا:(هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) ص/19.
ومحصول القول فالعبادة اسم جامع لتمام الذل والخضوع مع المحبة والتعظيم فإذا صرفت للمعبود الحق وهو الله جل جلاله كانت توحيدا وطاعة وإن صرفت لغيره كانت شركا ومعصية وهي تشمل أعمال القلوب والجوارح.
انظر موسوعة المصطلحات الإسلامية- تأصيل وضوابط/ مركز الفكر الإسلامي والدراسات المعاصرة/ج/4- ص/161
وأما بالنظر للدلالة القرآنية لمفردة العبادة ومشتقاتها فهي لا تبعد عن المعنى والدلالة اللغوية ولكنها أكثر تفصيلا وبيانا بحسب السياقات الواردة في كل آية، وكلمة العبادة وردت في القرآن الكريم (275) مرة بصيغ مختلفة، فهي تعني الإقرار بالربوبية والتسليم بالألوهية والخشوع والذلّ والاستكانة والخضوع والطاعة، والتزام الأوامر واجتناب النواهي والدعاء والدينونة لله تعالى والإخلاص له وتحقيق الولاء لأهل الإيمان والبراءة من أهل الأوثان.
ونأخذ مثالين من كتاب الله تعالى من جملة المعاني الواردة لتوضيح ذلك وبهما تجتمع المعاني المتفرقة:
الأول: العبادة بمعنى التوحيد كما في قول الله تعالى:(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) النساء /36، فلما كانت العبادة في مقابل الإشراك بالله دل على أن العبادة لله تعالى هي توحيدٌ له، فأصل العبادة هي توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به والتوحيد يتضمن الربوبية والألوهية وتوحيد الذات وكمال الصفات والاعتراف بوجود الخالق جل جلاله، وقد كان ذلك أول ما قاله الله تعالى لموسى عليه السلام في قوله تعالى:
(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) طه /14. أي وحدني وقم بعبادتي من غير شريك كما قاله العلامة ابن كثير في تفسيره.
الثاني: العبادة بمعنى الطاعة كما في قول الله تعالى:(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين) يس/60، (لا تعبدوا الشيطان) معناه لا تطيعوه بدليل أن المنهي عنه ليس هو السجود له فحسب بل الانقياد لأمره والطاعة له، فالطاعة عبادة -قاله الرازي في تفسيره-.
انظر المصطلحات في القرآن الكريم / المعاني والدلالات أ.د/محمد أمحزون ج/4-ص/135-148
أنواع العبادة:
العبادة من حيث العموم والخصوص أو الاضطرار والاختيار تنقسم إلى قسمين هما:
1/ العبودية العامة: وهي ما نسميه بعبوديّة الرّبوبيّة وهي عبوديّة القهر والملك والجبروت والاستسلام الجبري لله تعالى وهي العبودية الاضطرارية وهي مساحة التسيير الكوني، فكل الخلائق والعوالم، السماوات والأرض، والملائكة، والجن والإنس، بهذا الاعتبار العام عبيد لله تعالى، قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا) مريم (93) ، أي كل من في السماوات والأرض خاضع لله وهو عبد لله تعالى ، ولا يخرج عن عبادته بهذا الاعتبار أحد الكل عبيد لله حتى الكافر المتمرد على الله هو عبد لله في الربوبية ومنها قوله تعالى( الحمد لله رب العالمين ) فالجميع يسري عليهم القانون الإلهي والسنن الكونية والخلقية في الوجود والعدم والموت والحياة والضعف والقوة وتجري فيه الأقدار الظاهر والخفية وهم في كل ذلك مقهورون لله تعالى وخاضعون له وصاحب هذه العبادة يسمى المعبّد .
2/ العبودية الخاصة: وهي عبودية الطاعة والمحبة والرجاء والخوف والخشية والتوكل والإنابة والتضرع وأن يكون المنتهى إلى الله رغبة وأن يكون الرجاء لله والخوف من الله تعالى وهذه العبودية الخاصة هي التي نتكلم عنها وتدور عليها معاني ودلالات القرآن الكريم عندما يأمر بها وينهى عن ضدها من خلال التوحيد و الطاعة وهي التي سماها العلماء بالعبودية الاختيارية حيث يدخل المكلف في أحكامها طوعا واختيارا يرجو رحمة الله وثوابه ويخشى غضبه وعقابه وهي منازل ومقامات تختلف باختلاف السائرين إلى الله تعالى فمنهم الرسل والأنبياء ومنهم الصديقون والشهداء ومنهم الصالحون كما أن الأعمال التعبدية تختلف وتتفاوت في ذاتها فمنها الواجبات ومنها المستحبات من حيث الفعل ومنها المحرمات والمكروهات من حيث الترك ومنها العقائد والتصورات الكلية للوجود فهذه كلها تندرج في التعبد الاختياري أو الخاص .
ولما كان مقام العبودية من أفضل المقامات عند الله تعالى نجد القرآن الكريم يذكر في عدة آيات منه وصف النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل بهذا الوصف كما في قوله تعالى:(سُبْحَانَ الَذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ) الإسراء/1
ومقام الإسراء مقام عظيم وجليل فناسبه مقام يليق به وهو وصف النبي عليه الصلاة والسلام بمقام العبودية.
وكذلك جاء وصف النبي عليه الصلاة والسلام بمقام العبودية في مقام نزول الوحي وهو من المقامات السامية قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ) الكهف/1.
وجاء كذلك وصف العباد في مقام اجتناب الطاغوت وهو مقام عظيم وهو من المقامات التركية أي ترك واجتناب عبادة الطاغوت كما في قوله تعالى:(وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ) الزمر/17.
وقد وصف الله تعالى عبده ونبيه أيوب عليه السلام بالعبودية في مقام الدعاء بكشف الكرب والضر ومس الشيطان والاستعاذة بالله تعالى كما وصفه بالعبودية في مقام الصبر على البلاء وهو من مقامات الدين الكبرى قال تعالى: (وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَاۤ أَیُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥۤ أَنِّی مَسَّنِیَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِنُصۡبࣲ وَعَذَابٍ) ص/٤١، (وَخُذۡ بِیَدِكَ ضِغۡثࣰا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَـٰهُ صَابِرࣰاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابࣱ) ص/٤٤
وقد وصف الله تعالى داود عليه السلام بمقام العبودية والثناء عليه بذلك في مقام الأوبة ونعمة الولد الصالح والنبي الملك سليمان عليه السلام وهو مقام الهبات والعطايا الإلهية، قال تعالى: (وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَیۡمَـٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابٌ) ص/30.
وبذلك وبغيره من النماذج في القرآن الكريم يتضح عظمة مقام العبودية لله تعالى،
وهي العبودية الخاصة والاختيارية، والتي يتزاحم إليها الناس، ويتنافس فيها المتنافسون ومن أجلها شرعت الشرائع وأنزلت الكتب وبُعثت الرسل، وشرع الله تعالى شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، حتى نكون عبيداً لله اختياراً فعبودية الاضطرار فالخلق كلهم عبيد لله تعالى ومن هنا تأتي عملية التكريم الإنساني عن سائر المخلوقات المسيرة والمسخرة.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلاما نفيسا حول الفرق بين النوعين فقال:(وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التي من اكتفى بها ولم يتّبع الحقائق الدينية كان من أتباع ابليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض ، أو في مقام دون مقام ، أو حال دون حال ، نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.
وهذا مقام عظيم غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدّعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان) رسالة العبودية/31.
وهذه العبودية الاختيارية هي التي عدها الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات بأنها المقصد الشرعي من وضع الشريعة فقال: (المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا) تهذيب الموافقات ص/ 157، محمد بن حسين الجيزاني.
شروط العبادة:
لكل عبادة من العبادات شروط تتعلق بها ولا تصح دونها وذلك لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم كما نص عليه الأصوليون وغرضنا هو ذكر الشروط العامة التي تتعلق بأصل العبادة ويمكن تلخيصها في شرطين أساسيين هما:
1/ الإخلاص والتوحيد وهو شرط يتعلق بالمراد والقصد وهل هو لله تعالى أم لغيره فهذا شرط إذا فقد انعدم معه المشروط أي لا تصح العبادة وتكون باطلة ولا يترتب عليها الأثر من الأداء المطلوب شرعا والثواب المرتجى في الآخرة.
2/ الصواب والمتابعة وهو أن يكون العمل مشروعا من جهة الشارع لا مبتدعا من جهة المكلف وخاصة فيما يراد به التقرب إلى الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ذلك وجماع الدين أصلان:
(أن لا نعبد إلا الله.
ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع قال تعالى: ( قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱۖ فَمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ لِقَاۤءَ رَبِّهِۦ فَلۡیَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَلَا یُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦۤ أَحَدَۢا) الكهف/١١٠
ذلك تحقيق الشهادتين:
(شهادة ألّا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله) رسالة العبودية/137
دوافع العبادة:
يتسم الإنسان بالمشيئة والاختيار -وخاصة في التكاليف الشرعية- وبالتالي فالإنسان عنده دوافع ومحركات كما له كوابح ومسكنات فما هي الدوافع التي تحرك الإنسان نحو العبادة ذاتيا وتجعله يسعى للعبادة طوعا واختيارا؟
من خلال النظر للحالة الإنسانية وطبيعتها ومكوناتها يمكننا إجمال الدوافع نحو العبادة في دافعين أساسيين هما:
1/ الدوافع الفطرية:
أودع الله تعالى في الإنسان فطرة مؤسسة على ميثاق رباني منذ الخلق الأول لبني آدم ، وقد أخذه عليهم وهم نسمات في ظهر أبيهم آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته جل جلاله، وهذا الميثاق يولد عليه كل مولود ثم يحصل التبديل والتغيير في الفطرة من خلال البيئة والنشأة والتربية قال تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ) الأعراف/ ١٧٢، وهذه الفطرة هي أقوى الدوافع التي تحمل الإنسان على التعبد لخالقه رغم وجود عوامل عديدة تبعده عن الله تعالى ومنها الشيطان ، والنفس الأمارة بالسوء، والغفلة والنسيان ، والبيئة التي ينشأ فيها الإنسان وما فيها من أصحاب ومؤسسات علمية وثقافية شاردة عن الحق والميثاق قال تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) النمل/14،
وبالتالي فإن الفطرة دافع جواني باعث لعلاقة أخلاقية مع الله تعالى، ومحفزة لقبول الرسالة والأحكام قال تعالى:(فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَاۚ لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ) الروم/ ٣0،
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها” ثم قرأ أبو هريرة: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾
وقد أورد العلامة ابن قيم الجوزية كلاما نفيسا حول معنى الفطرة ننقله للفائدة مع التصرف حيث يقول:
(وقد اختلف في معنى هذه الفطرة والمراد بها فقال القاضي أبو يعلي في معنى الفطرة: “هاهنا روايتان عن أحمد:
أحدهما: الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم حتى مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى.
فليس أحد إلا وهو يقرُّ بأن له صانعا ومدبرا، وإن سماه بغير اسمه قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾
فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول”……….
والرواية الثانية: “الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بمعرفته حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما……
ولذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله فقال هي التي فطر الناس عليها شقي أو سعيد، وكذلك نقل جبيل عنه قال الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة قال وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا ابتداء خلقه في بطن أمه”
قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية أحمد: “لم يذكر العهد الأول وإنما قال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين
وقال في غير موضع إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه واستدل بهذا) انتهى كلامه / تفسير ابن القيم للآية.
وخلاصة القول فإن الفطرة إما أنها الإقرار والمعرفة الكامنة في الخلق كما في الرواية الأولى للإمام أحمد رحمه الله أوهي الخلق الأول في بطن الأم وكتابة الشقاوة والسعادة وكلام شيخ الإسلام وتخريجه لكلام الإمام أحمد رحمهما الله تعالى بأن الفطرة هي الدين وهي الإسلام، وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم:(والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين هما أصل السعادة:
أحدهما: أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ وشبه ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها وثبت عنه أنه قال:
“يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا”
فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئا، ولم تشرك به ولم تجحد كمال ربوبيته، وكان أحب شيء إليها وأطوع شيء لها وآثر شيء عندها، ولكن يعدها من يقترن بها من شياطين الجن والإنس بتزيينه وإغوائه حتى ينغمس موجبها وحكمها.
الأمر الثاني: أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة ومكنهم من أسبابها وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه ففي كل نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصل بها إلى سعادة الآخرة وجعل في فطرته محبة لذلك لكن قد يعرض العبد عن طلب علم ما ينفعه فلا يريده ولا يعرفه …) تفسير ابن القيم.
فالدافع الأول للعبادة هو دافع الشعور الفطري بالخالقية والربوبية وأن حاجة الإنسان لربه القوي الغني الذي يركن إليه حاجة ماسة لأن الإنسان ضعيف وفقير بذاته قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر/15، والخطاب الشرعي جعل من قضية الإقرار بالربوبية والخالقية أساسا للمطالبة بالعبودية قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/21.
2/الدوافع الشرعية:
وهي دوافع الرغبة والرهبة من الله تعالى طمعا في جنته وثوابه وخوفا من ناره وعقابه وبناء على ذلك فهو يطيع أوامر الله ويجتنب نواهيه ومحارمه ويلتزم شرعه المنزل ، تحقيقا لمقصد التعبد الذي جعله الله غاية وجود المكلف وهو دون مقام العبادة بدافع المحبة والتعظيم لله جل جلاله، وهو مقام خاص لأوليائه المقربين ، وقد قال ابن القيم في كتابه مدراج السالكين عن منزلة المحبة:(هي المنـزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفاني المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسـد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها)
وفوق منزلة المحبة والتعظيم تأتي منزلة ومقام الشكر والثناء على الله تعالى المنعم المتفضل فيكون دافع ذلك أعظم في قلب المكلف لأنه يستشعر بأن حاله كله حال المتقلب في نعم الله تعالى، بما في ذلك عبادته وشكره وثناؤه ووجوده وحياته الأخروية من بعد، كلها نعم تفضل بها المنعم جل جلاله، فلا يستكثر ولا يمنن على الله تعالى، وهو المقام الذي قال عنه النبي صلى الله وسلم لما سئل عن كثرة عبادته حتى تورمت قدماه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال:( أفلا أكون عبدا شكورا) متفق عليه.
وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه إحياء علوم الدين عن حقيقة الشكر وحدِّه 🙁 اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين وهو أيضاً ينتظم من علم وحال وعمل فالعلم هو الأصل فيورث الحال والحال يورث العمل فأما العلم فهو مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ وَالْحَالُ هُوَ الْفَرَحُ الْحَاصِلُ بِإِنْعَامِهِ وَالْعَمَلُ هُوَ الْقِيَامُ بِمَا هُوَ مَقْصُودُ الْمُنْعِمِ وَمَحْبُوبُهُ وَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْقَلْبِ وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الإحاطة بكمال معانيه)
من صور التعبد لله تعالى:
تختلف الصور التي يتعبد بها المكلف لله تعالى، وهي شاملة لكل مجالات الحياة الخاصة والعامة وهي نية وعقيدة وقول وعمل كما هو حال الإيمان عند السلف وقد تتعلق بالقلب والبدن أو بأحدهما وذلك على النحو التالي:
1/العبادات القلبية: مثل قضايا الاعتقاد والإيمان والنية والإقرار، والعلوم والمعارف الغيبية، وأعمال القلوب من خشية ورهبة وخوف ورجاء وتوكل وإنابة هذه كلها تدخل في العبادات القلبية.
2/ العبادات القولية: ويدخل فيها كافة العبادات التي تكون باللسان كالتلاوة والذكر بكل صوره اللسانية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان والنطق بالشهادتين وبذل القول الحسن للناس كافة وغير ذلك مما يدخل في العبادات القولية.
3/العبادات العملية: تدخل فيها كافة الأعمال الشعائرية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله تعالى ولعل هذا هو المراد بالعبادة عند الفقهاء في تدوينهم العلمي وهو الشائع عند الناس عند الإطلاق، كما يدخل في العبادات العملية كافة المعاملات الحياتية التي يلتزم فيها العبد أمر الله تعالى ويقصد التقرب بها لله تعالى وهذا المعنى واسع في العبادة لأنه يخرج بالعبادة عن معناها الشعائري للفضاء الرحب في حياة الناس كافة تحقيقا للاستخلاف والعمران البشري.
ولعل بعض العبادات يتداخل فيه القلبي مع القولي مع العملي كعبادة الذكر والصلاة التي يكون فيها القلب حاضرا واللسان قائلا والبدن عاملا وهو مجال واسع وصوره متعددة ويظهر في كثير من الشعائر والقرب.
والعبادة بكل صورها ومجالاتها لا يجوز فيها الإشراك بالله تعالى بل مدارها على التوحيد والإخلاص والطاعة والاتباع ومن أعظم المحرمات الشرك بالله لقوله تعالى:
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) الأنعام/151.
مقاصد التعبد لله تعالى:
مقاصد التعبد لله تعالى متعددة وكل عبادة لا بد أن تؤدي لمقصد من هذه المقاصد أو كلها ويمكن إجمال هذه المقاصد فيما يلي:
1/ مقصد التسليم لله تعالى والانقياد له بالطاعة حباً وتعظيماً وشكراً وثناءً وطمعاً فيما عنده من ثواب وخوفاً مما عنده من عقاب يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في ذلك في هذا الجانب:(إن مقصود العبادات الخضوع لله والتوجه إليه والتذلل بين يديه والانقياد تحت حكمه وعمارة القلب بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله ومراقبا لله غير غافل عنه وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته) الموافقات/ج/2/301.
2/ مقصد التقوى وهي من المقاصد والغايات الكبرى في الشرع وهي معرفة الحقوق وأدائها ومعرفة الحدود والتزامها وترك العدوان على محارم الله في النفس والخلق، وكل عبادة يجب أن تؤدي إلى تحقيق التقوى لأنها المقصود الأسمى للعبادات لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/21، وهنا يبدو الأثر الحياتي للعبادات والأوامر الشرعية كلها وكونها تحقق مقصدا يكون به صلاح العباد والبلاد.
3/ مقصد تزكية النفوس وذلك بتطهيرها من الآثام والمعاصي والذنوب الظاهرة والباطنة والتعلق بالله تعالى ومراقبته والسعي لتحقيق رضوانه ولو نظرنا في العبادات الشعائرية لوجدناها تحقق التزكية والتطهير فالصلاة فيها ذكر الله وتنهى عن الفحشاء والمنكر والزكاة تحقق الطهورية والتزكية والتكافل الاجتماعي والصوم يحقق التقوى والمراقبة والخشية، والحج يحقق ذكر الله تعالى والتسليم لأمره والخوف والخشية من مخالفته في الصغيرة والكبيرة والعديد من المنافع العامة والخاصة ، قال تعالى:(هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ) الجمعة/٢
وختاما فإن العبادة لله تحقق انشراح الصدر وراحة البال والسعادة في الدارين والشعور بمعيّة الله تعالى وتنزل البركات الدنيوية والأخروية وتحقق كذلك التحرّر من ربقة العبودية لغير الله ودخول الإنسان في الحرية التامة التي لا تكون إلا بعبادة الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
يوجد 3 تعليقات
mhmdromai873@gmail.com
مقال رصين وشامل وضافي وشافي
وفقك الله
عبدالرحمن البدري
سدد الله خطاكم وقلمكم.
مقال ماتع تأصيلا وسبكا ودلالة واستيعابا
ابوحامد
احسنتم د ابوالبراء بحث مهم لتوعية اجيال الامة، بمفهوم العبادة الصحيح ومتطلباته، وخاصة في وقت اختلطت فيه المفاهيم لدى الشباب، وصرفت فيه العبادة لغير مستحقها وهو الله جل جلاله وعز سلطانه،
ومزيدا من البحوث الاسلامية النافعة، وجزاكم الله خيرا.