
بقلم/ د.حسن سلمان
الحمد لله الذي علّم بالقلم، ورفع شأن العلم وأهله، والصلاة والسلام على النبي الأمين، معلم البشرية وهاديها إلى طريق الحق واليقين.
يُعدّ العلم ركيزة أساسية في بناء الحضارات، وسببًا في تقدم الأمم وازدهارها، وهو من أعظم النعم التي امتنّ الله بها على عباده، إذ جعله سبيلًا للهداية، وأداةً لترسيخ العدل، ووسيلةً لاكتشاف سنن الكون وفهم نواميسه، ومنذ اللحظة الأولى لنزول الوحي احتل العلم مكانةً محورية في الرسالة الإسلامية، حيث جاء الأمر الإلهي الأول داعيًا إلى القراءة والتعلّم، مما يؤكد أن المعرفة هي مفتاح الرقي الإنساني وأساس الاستخلاف في الأرض، وقد ميزت الرسالات السماوية بين أهل العلم وغيرهم، فجعلت العلماء في مقام الرفعة والفضل، فهم ورثة الأنبياء وحملة مشاعل النور، ومنارات الهداية التي تقود البشرية نحو الصلاح والرشد، وليس طلب العلم مجرد سعي دنيوي، بل هو عبادة تُقرب الإنسان من خالقه، وتسهم في تحقيق الفلاح في الدارين، ومن هذا المنطلق تقوم المؤسسات العلمية على منهجية البحث والتعلم المستمر، تأكيدًا على قيمة المعرفة في بناء الإنسان والمجتمع وترسيخًا لدورها في تحقيق النهضة والعمران، فالعلم ليس خيارًا بل ضرورة لا غنى عنها لإقامة الدين وتعمير الأرض وفق منهج الله الحكيم.
وما نود تأكيده في هذا المقال هو أن العلم مقصد شرعي وغاية رئيسة في الإسلام وقد دلت العديد من النصوص القرآنية على هذه الغاية نذكر منها ما يلي:
1/. قوله تعالى:﴿وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْآيَٰتِ وَلِيَقُولُوا۟ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الأنعام: 105. وفي الآية يبين الله أن تصريف الآيات والغرض من نزولها هو التبيين لقوم يعلمون، مما يدل على أن العلم هو مقصد إلهي وغاية قرآنية.
2/. قوله تعالى:﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٖ قَدِيرٞ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَۢا) الطلاق: ،12 الآية صريحة في أن غاية خلق السماوات والأرض وتنزيل الأمر هو تحقيق العلم بعظمة قدرة الله وإحاطته بكل شيء.
3/ قوله تعالى:﴿وَٱللهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ النحل/78
, هنا يبين الله تعالى أنه أخرج الإنسان لا يعلم شيئًا ثم زوّده بوسائل العلم، مما يدل على أن العلم غاية من غايات الخلق ليصل الإنسان إلى الشكر والعبودية الحقة.
4/قوله تعالى:﴿وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةٗ لِّتَبْتَغُواْ فَضْلٗا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٖ فَصَّلْنَٰهُ تَفْصِيلٗا ) الإسراء: 12
في هذه الآية يذكر الله أن من مقاصد اختلاف الليل والنهار هو العلم بالحساب والسنين، مما يدل على أن العلم مقصد كوني وتشريعي.
ومحصول القول فإن العلم هو غاية ومقصد من مقاصد الخلق والوجود والتشريع، سواء في معرفة الله تعالى، أو معرفة سنن الكون، أو التمييز بين الحق والباطل، وكل ذلك جاء بصيغ متعددة في كتاب الله تعالى مما يدل بوضوح أن تحصيل العلم من المقاصد والغايات الأساسية في الإسلام.
أهمية العلم في بناء الحضارات:
يتفق البشر جميعًا على فضل العلم وأهميته، فهو أساس التقدم والرقي، بينما يُعد الجهل مذمومًا ومصدرًا للتخلف والتيه والضلال، ومنذ ولادة الإنسان يبدأ رحلته في اكتساب المعرفة إذ خلقه الله تعالى وهو لا يعلم شيئًا، كما قال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ النحل: 78. وهكذا، زُوّد الإنسان بأدوات التعلم من سمع وبصر وعقل ليكون شكره لله نتيجةً مباشرةً لما يكتسبه من علم.
والعلم في الرسالات السماوية غاية عظيمة لا يختلف المسلمون في أهميتها، فالقرآن الكريم جاء ليُخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، وقد شمل العلم مجالات متعددة، منها ما يتعلق بالآخرة ومنها ما يتعلق بشؤون الدنيا، وفي كل الأحوال فإن طلب العلم مأمور به شرعًا، وهو مفتاح التقدم للأمم والشعوب، ولا يخفى أن الجهل هو سبب التخلف والجمود واتباع الظنون والأهواء، بينما بالعلم قامت الصناعات الكبرى، وظهرت التقنيات الحديثة، ونجحت البشرية في محاربة الأوبئة والأمراض القاتلة، وتطورت وسائل النقل البرية والجوية والبحرية، مما أدى إلى اختصار الزمن وتقريب المسافات.
إضافةً إلى دوره في نهضة الحياة الدنيوية، يُعدّ العلم أصلًا من أصول السعادة الأخروية، لا سيما العلم بالله تعالى، فهو أعظم مطلوب في الوجود، وأول واجب على المكلّف، كما قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ محمد: 19
ولذلك، بوّب الإمام البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: “العلم قبل القول والعمل”، تأكيدًا على أن كل عبادة أو عمل لا بد أن تسبقه معرفة صحيحة.
ومن عناية الإسلام بالعلم أن أول الكلمات والآيات التي نزلت في الوحي كانت: ﴿اقْرَأْ﴾ العلق: 1، مما يدل على أن نقطة البداية في الرسالة الإلهية كانت بالمعرفة والتعليم، كما أن الإنسان الأول، آدم عليه السلام، كان تميزه عن الملائكة بعلمه، حيث قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ البقرة: 31، وهكذا فإن أساس الخلافة في الأرض يقوم على العلم، مما يبرز مكانته في تحقيق مقاصد الشريعة وإعمار الكون.
والعلم سبب لرفعة الإنسان في الدنيا والآخرة، فقد قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ المجادلة: 11، وهذه الرفعة تجلّت في قصص الأنبياء مثل إبراهيم عليه السلام الذي نال الرفعة بالحجة الإيمانية، ويوسف عليه السلام الذي أكرمه الله بالحكمة في تدبير شؤون الحكم والسياسة، كما قال: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76.
ومن اللافت أن العلم هو المجال الوحيد الذي أمر الله تعالى بطلب الزيادة فيه، حيث قال: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: 114)، مما يدل على أن مساحات المعرفة لا حدّ لها، وأن الإنسان كلما تعلم زاد إدراكه بمدى جهله أمام عظمة الكون وعظمة خالقه جل جلاله، وهذا ما يظهر في قصة موسى عليه السلام مع الخضر، حيث أُمر موسى بالتعلم ممن هو دونه في النبوة والرسالة والمقام، ليُدرك أن العلم بحر لا يُدرك مداه، فقال له: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ الكهف: 66.
والعلم ضروري في جميع المجالات الحياتية، ففي ميادين الجهاد، أمر الله المسلمين بالتفقه في الدين ليكون إنذارهم للناس قائمًا على بصيرة، فقال: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122.
ومن أعظم المنن التي أنعم الله بها على نبيه محمد ﷺ أنه علمه ما لم يكن يعلم، فقال: (وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍۢ ۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء: 113. ولم يقتصر هذا الامتنان على النبي فحسب، بل على الأمة بأسرها، حيث بعث الله نبيه ليعلمها الكتاب والحكمة، كما قال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة: 2.
ولا يفوتنا أن العلم هو الوسيلة التي تقود الإنسان إلى خشية الله الحقيقية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28). وهو الطريق الموصل إلى الجنة، كما قال النبي ﷺ: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة) فإذا جمع الإنسان بين العلم والعمل والاستغفار، سدّ الفجوة بين نعم الله عليه وبين تقصيره في أداء حقوقها، محققًا بذلك التوازن الذي أراده الله لعباده في الدنيا والآخرة كما ورد في حديث سيد الاستغفار: (أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي)
تأملات في مفهوم العلم بين الوحي والمنهجيات الوضعية:
يتميز القرآن الكريم بمنهجية شمولية تتضمن كليات كبرى، يوجه إليها الأنظار، وتندرج تحتها العديد من التفاصيل والجزئيات. غير أن التعامل مع هذه الجزئيات لا ينبغي أن يكون بمعزل عن مقاصدها الكبرى وغاياتها العظمى، إذ إن الانشغال بالتفاصيل دون إدراك أطرها الكلية يعدّ صورة من صور هجر القرآن الكريم. فكثيرًا ما يشغل الشيطان الإنسان بالمفضول عن الفاضل، ويصرفه عن إدراك مقاصد الوحي الكبرى. ومن هنا، فإن تدبر القرآن الكريم لا يقتصر على فهم مفرداته وتفسير جزئياته، بل يستدعي كذلك استيعاب غاياته ومقاصده الشاملة ومن هذه الغايات الكبرى غاية العلم التي يتناولها المقال ويبقى السؤال الجوهري:
ما هو العلم؟
عند التعمق في الأدبيات الفلسفية والعلمية، نجد أن تعريف العلم لم يحظَ حتى اليوم باتفاق جامع مانع يشمل كل ما يمكن إدراجه تحت مفهوم العلم، ويستثني في الوقت ذاته كل ما لا يندرج تحته، وقد خاض الفلاسفة والمفكرون منذ اليونانيين إلى العصر الحديث في محاولات لتعريف العلم وضبط حدوده، مما أدى إلى نشوء اتجاهات وتصورات متعددة، لا سيما في السياقات الغربية الحديثة. ومن أبرز المسائل التي أثارت الجدل في تعريف العلم: مدى يقينية المعرفة التي يتم التوصل إليها عبر البحث العلمي. فإلى أي حد يمكن اعتبار المعارف المكتسبة—سواء عبر الحواس أو العقل—يقينية لا يشوبها الشك؟
وهنا يظهر الفرق الجوهري بين المعرفة القائمة على الوحي والمعرفة التي تعتمد حصريًا على المنهجيات الوضعية، فحين ينفصل البحث العلمي عن هدايات الوحي، يصبح عرضة للشكوك والتحيزات، سواء كانت فكرية أو بيئية أو ثقافية، وهي ما أطلق عليها بعض فلاسفة الغرب مصطلح “الأوهام”، مثل أوهام الذات، والبيئة، والجنس، والنوع، والحواس، والعقل النظري. هذه الأوهام تؤثر في صياغة النظريات العلمية، مما يؤدي أحيانًا إلى تبني تصورات تتعارض مع الحقائق القرآنية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، نظرية التطور الداروينية، التي يتعامل معها بعض العلماء وكأنها مسلمة علمية، في حين أنها تصطدم بالسرديات القرآنية والحقائق الإيمانية لدى المسلمين. وهذا يطرح تساؤلًا هامًا: ما مدى قطعية المعارف التي تُصنَّف ضمن نطاق “العلم”؟ وهل التعريفات الوضعية للعلم تستوعب جميع أبعاده؟
يرى الاتجاه الوضعي أن العلم هو وصف الواقع كما هو، وتصويره تصويرًا يقينيًا قائمًا على المشاهدة والتجربة والعقل ومن هنا، يُعرِّفون العلم بأنه صفة تطلق على الأخبار أو التقارير أو الأوصاف التي تعكس الوقائع والأحداث والأشياء كما هي، بناءً على الحواس الخمس والتجربة والعقل، وهذا التعريف، رغم وجاهته في نطاق المحسوسات، يبقى قاصرًا عن استيعاب حقائق الغيب، كعلوم الوحي، والروح، والنفس، وقضايا الآخرة، والملائكة، وسنن الله تعالى وأقداره في الكون والطبيعة والإنسان.
من هنا، تتجلى الإشكالية الجوهرية في التعريف الوضعي للعلم، إذ يستبعد كل ما لا يمكن إخضاعه للحس والتجربة، مما أدى إلى إنكار علون الوحي المنزل، واعتبارها قضايا ذاتية غير قابلة للبحث العلمي وفق منظورهم. ولذا، نجد أن كثيرًا من الباحثين الذين درسوا في السياقات الغربية يصطدمون بداية بمسألة تعريف العلم ذاته، حيث يُقصَر العلم في هذه البيئة على ما ثبت بالتجربة الحسية، بينما يُستبعد كل ما يتعلق بالوحي والميتافيزيقا من دائرة “المعرفة العلمية”.
هذه الإشكالية أدت إلى ظهور تناقضات داخل المدارس الوضعية نفسها، حيث نشأت اتجاهات متباينة، بين العقلانية والتجريبية، والعدمية، والشكّية، والسفسطائية، مما أدى ببعض المفكرين إلى الوقوع في دوائر الشك الوجودي، حتى إن بعضهم صار يشكك في حقيقة وجود ذاته!
إن الفهم الصحيح للعلم يتطلب التفريق بين العلم والمعرفة، إذ إن العلم هو إدراك الحقيقة كما هي، بينما المعرفة مفهوم أوسع يشمل الإدراك الظني واليقيني على حد سواء. ولذلك، لا بد من إعادة النظر في مفهوم العلم ليكون أكثر شمولًا، بحيث لا يقتصر على المحسوسات والتجريبيات، بل يشمل كذلك الحقائق المستمدة من الوحي، والتي توفر بعدًا غائيًا ومعنويًا لا يمكن للمنهجيات الوضعية وحدها إدراكه.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الإشكالات الكبرى المرتبطة بتعريف العلم في المنظور الوضعي، بغض النظر عن مدى صوابها أو خطئها، وعن كونها تمنح يقينًا علميًّا أم لا، أو حتى عمّا إذا كانت تمثّل علمًا حقيقيًّا أم هي مجرد نوع من المعارف الإنسانية. وكما هو معلوم، فإنّ المعارف بطبيعتها تخضع للنقد والنقض، كما أنها قابلة للتصحيح والتطوير والاستكمال، مما يجعلها في نهاية المطاف ضمن إطار المعارف، ولا يمكن وصفها بالعلم بمعناه المطلق.
إن جوهر ما نودّ التأكيد عليه في مسألة التعريفات، قديمها وحديثها، هو أنّ العلم أوسع وأسمى من كل تلك التعريفات المحدودة. فمضامين العلم تشمل حقائق الكون وعلاقاته، ونشأته وتطوّره، وأهدافه وغاياته، واتجاهاته المختلفة، سواء في العالم الطبيعي، أو الإنساني، أو في عالم الغيب والشهادة. ومن هنا، فإنّ أيّ تعريف مهما بلغ من الدقة والشمول لن يتمكن من الإحاطة بهذا الكون الفسيح إحاطةً كاملةً. وقد هدانا الله تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: “وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ“ (البقرة: 255.
إنّ الإحاطة بالعلم أمر يستحيل على البشر مهما بلغوا من التقدم، فلا يمكنهم بلوغ منتهاه أو الإلمام بجميع جوانبه، ولا حتى الظنّ بإحاطتهم به، والسبب في ذلك أنّ الحياة نفسها لا تخضع بشكل تامّ للقوانين الآلية، مما يجعل إدراك حقيقتها أمرًا بالغ الصعوبة كما قال علي عزت بيجوفيتش: “الحياة معجزة أكثر من كونها ظاهرة“، فالظواهر يمكن دراستها والوصول إلى بعض نهاياتها، لكنّ المعجزات تتجاوز قدرة العقول على الإحاطة بها بشكل كامل.
وقد أشار عالم الأحياء السويسري (جاينو ) إلى الفرق الجوهري بين العلاقات الكيميائية الطبيعية وعلاقات الطبيعة من جهة، وبين الحياة بمفهومها الأشمل من جهة أخرى، بما تتضمّنه من روح ونفس ومادة. فقد أوضح أنّ تفسير الحياة من منظور الكيمياء والطبيعة يواجه عقبة كبيرة، إذ قال: “لقد اجتهدنا في تفسير الحياة بصيغ طبيعية وكيميائية، لكننا واجهنا شيئًا يستعصي على التفسير؛ إنها الحياة. لقد أوجدت الحياةُ نظامًا معقدًا ليس مرة واحدة فحسب، بل ملايين المرات عبر مليارات السنين. إننا نواجه قدرةً على البناء لا يمكن تفسيرها بالعلوم الطبيعية أو الكيميائية“.
ومن هنا، فإنّ النظر إلى العلم بوصفه امتلاكًا للمعرفة ليس دقيقًا، إذ إنّ كثيرًا مما يُعتقد أنه معرفة علمية هو في حقيقته مجرد ظنون، كما قال الله تعالى): إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَ (النجم: 23. وللوصول إلى صورة أقرب للحقيقة العلمية، لا بدّ من عنصر خارجي يتجاوز هذا الوجود الطبيعي والإنساني، وإلا فإنّ الحكم على الأشياء سيبقى قاصرًا بحدود الذات البشرية. فلا يمكن للإنسان أن يحكم على نفسه أو على الكون بمعزل عن وحي الله تعالى الذي يمثل المصدر الأسمى للحقائق العلمية.
ولهذا، فإنّ أيّ اكتشافات علمية أو معارف بشرية تظلّ ناقصة وقابلة للتطوير والنقد، ما لم تستنر بهدي الله تعالى، وإذا أردنا تعريف العلم من منظور إسلامي نجد أن علماء الشريعة يعرّفونه بأنه “المعرفة بحقيقة الأشياء وأدلتها“، أي معرفة الحق بدليله.
والحقائق ليست نوعًا واحدًا، بل تتعدّد، فهناك:
- حقائق الغيب، التي لا يمكن إدراكها بالعقل أو التجربة، وتحتاج إلى مصدر موثوق متعالي وهو الوحي المنزل من الله تعالى.
- حقائق اللغة، التي تعتمد على أصول وقواعد لغوية.
- حقائق العرف، التي تُستنبط من العادات والتقاليد.
- حقائق الأشياء الطبيعية، التي تُدرك بالحواس والتجربة.
- حقائق الإنسان، التي تشمل طبيعة النفس البشرية وسلوكها.
ويؤكد المنظور الإسلامي أنّ العلم بمعناه المطلق لا يكون إلا من عند الله تعالى، وأنّ كل ما عداه من معارف بشرية لا يرقى إلى مستوى العلم الحقيقي إلا بمقدار تطابقه مع الوحي الإلهي. قال تعالى: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ“ (الروم: 7.
إنّ الآية تبين أنّ كثيرًا من الناس يظنون أنهم يعلمون، لكنّ علمهم يقتصر على الظواهر، دون إدراك للغايات والمقاصد الكبرى. فليس الهدف من العلم مجرّد توصيف الظواهر، بل الوصول إلى الحقيقة التي تدلّ على الحق، أي أن يكون العلم وسيلةً للهداية وليس مجرد تراكم معرفي.
وفي التصور الإسلامي، تُعدّ كل الحقائق سواء كانت كونيةً أو إنسانيةً أو شرعيةً آياتٍ تدلّ على الله سبحانه وتعالى، فإن لم يكن العلم موصلًا إلى الحق الأعلى، فهو علم ناقص، يُصنَّف ضمن المعارف لا العلوم..
مصادر العلم في التصور الإسلامي وتكامله:
تعتمد مصادر العلم في الإسلام بناء على ما تقدم على المصادر التالية:
- المنقول: يشمل الوحي الإلهي، من كتاب وسنة ثابتة وصحيحة وأيضًا الروايات التاريخية الصحيحة ودلالات الواقع الثابتة.
- المعقول: يتعلق بالمفاهيم المجردة كعلوم الرياضيات والمنطق، والتي تعتمد على الفطرة والتأمل والتجربة.
- المحسوس: يعتمد على التجربة والملاحظة الحسية، وهو ما يتقاطع مع منهج العلوم التجريبية.
ولا يوجد تعارض بين حقائق الحس والعقل والنقل في التصور الإسلامي، بل تتكامل هذه المصادر للوصول إلى الحقيقة، فالمعقول الصريح، والمحسوس المؤكد والمحقق، لا يمكن أن يتعارضا مع المنقول الصحيح بحال.