
بقلم الدكتور/ حسن سلمان
منهجية العلم في الإسلام:
يؤسس الإسلام للمنهج العلمي القائم على الخبر والمختبر، نقصد بالخبر ما جاء عن الله تعالى بدليل قاطع، سواء في كتابه الكريم أو في سنة نبيه ﷺ، ويشمل ذلك النصوص ذات البعد الاعتقادي، والمعرفي، والسلوكي، والقيمي، كما يشمل الخبر كافة العلوم النقلية الثابتة بالنقل الصادق والمطابق للواقع، أما المختبر فيتعلق بالقضايا التي يمكن الوصول إليها عبر التجربة والبحث العلمي، الذي يثمر عن اكتشافات علمية متجددة يوميًا، أو ما يُدرك من خلال الحواس الخمس كما تقدم.
ولذا ينبغي أن يكون الأصل في التفكير العلمي لدى العقل المسلم عدم قبول أي قضية إلا بخبر صحيح أو تجربة دقيقة، مع الاستمرار في التشكك المنهجي حتى تتبين الحجة ويقوم الدليل من خلال طرح الأسئلة والانتقال في مراتب اليقين، وقد يستدل في ذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام:(نحن أَوْلى بالشكِّ من إبراهيم ) رواه مسلم
فقد أسس نبي الله إبراهيم عليه السلام لمنهج الاستقراء والتتبع وطرح الأسئلة، ونأى عن الأوهام، واعتمد على الحقائق العلمية، مما يرسخ منهجية البحث والتحري، ويشجع الباحثين على احترام اختلاف الرأي، والنظر في قوة الأدلة، وتقبل النقد العلمي.
يقول الفيلسوف البريطاني (النمساوي الأصل) كارل بوبر (1902-1994م):
“من المهم بالنسبة لي ألا يتم التعامل مع ما أقوله من موقع التصديق المطلق، بل على العكس، أفضّل أن يُتناول من موقع الشك“
ومن يتخلى عن الشك العلمي، يتخلى عن حريته، ومن يتخلى عن حريته يفقد إنسانيته، كما قال جان جاك روسو. فالشك المنهجي قد يكون طريقًا إلى اليقين.
تكامل القراءتين في الإسلام:
يربط الإسلام بين قراءة الوجود الكوني (الكتاب المنظور) وقراءة القرآن الكريم (الكتاب المسطور)، وتختلف طريقة القراءة وفقًا للخلفيات والمناهج، إلا أن الرسالة المحمدية جاءت لتبدأ بـ “اقرأ باسم ربك“ العلق: 1، مما يشير إلى القراءة الإيمانية التي تجمع بين العلم والإيمان، حيث يقود العلم إلى الإيمان، ويحفز الإيمان على مزيد من البحث العلمي، فلا يقف عند الكيف والكم فقط، بل يمتد إلى البحث في العلل والحكم التي تدل على الخالق.
وهنا فقط، يصبح للحياة معنى، وللوجود غاية، بعيدًا عن العبثية والعدمية، كما قال تعالى:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ المؤمنون: 115
مفهوم العلم النافع:
وفي الوقت الذي يجعل الإسلام العلم غاية ومقصداً إلا أنه يربط ذلك بالعلم النافع ليس كل معرفة تُعتبر علمًا نافعًا في الإسلام، بل هناك تمييز بين العلم النافع والعلم الضار، فالعلم النافع هو الذي يحقق الفائدة للفرد والمجتمع، سواء في أمور الدين أو الدنيا، بينما يُحذِّر الإسلام من العلوم التي تضر بالبشرية أو البيئة الطبيعية والعلم النافع هو ما تعلق نفعه بالدنيا أو الآخرة أو بهما معا وهي العلوم التالية:
- العلوم الشرعية: وتشمل معرفة الله تعالى، والنبوات، والرسالات، والأحكام التشريعية، وهي من العلوم التي يجب على كل مسلم معرفتها بدرجة معينة (فرض عين أو كفاية).
- العلوم الحياتية: مثل الطب، الهندسة، الفيزياء، وغيرها، وهي ضرورية لتحقيق الإعمار والاستخلاف، وتُعد من فروض الكفاية التي يجب أن يتكفل بها المجتمع.
وبهذين العلمين يتحقق مفهوم الاستخلاف المتضمن للعبادة والعمران.
خامسا: وظيفة العلم:
للعلم وظائف أساسية عديدة في التصور الإسلامي، ولكن نشير لأهم ثلاث وظائف تمثل ركائز هامة في هذا المجال ويؤسس عليها كل ما عداها من وظائف فرعية وهي:
أولا: معرفة الله تعالى
ثانيا: معرفة الوجود الظاهري
ثالثا: الإيمان باليوم الآخر
ونحاول الحديث عن هذه العناوين في إشارات مجملة تفي بالغرض بما يناسب المقام والمقالة في مساحتها المحدودة.
أولا: معرفة الله تعالى:
من أهم وظائف العلم في التصور الإسلامي هو الدلالة على الحق والحقيقة ومن أعظم الحقائق الوجودية حقائق الغيب (الله تعالى / الملائكة / الجنة والنار / إلخ..) فالله تعالى غيب وهو الحق جل جلاله في ذاته واسمائه وصفاته وأفعاله قال تعالى:
(ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَـٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ) الحج/٦٢ ومعرفة الله تعالى هي الغاية العظمى التي يتحقق من خلالها غايات الوجود الإنساني بتحقيق العبادة والعمران والاستخلاف في الأرض، فأول وظيفة للعلم في الإسلام هي معرفة الله جل جلاله موجودا وربا وخالقا ومتصفا بكل كمال ومنزه عن كل نقص وأن الوجود كله مظهر من مظاهر علمه وقدرته وجلاله وجماله وكرمه : ( تَبَـٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِی ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ) الرحمن/٧٨ والعلم التجريبي كما تقدم مجال بحثه هو العالم الطبيعي المادي وعالم الظواهر بواسطة الكشف والاستنتاج والقياس وغيره ومن خلال المعرفة الظاهرة بالوجود يقوم العقل بالربط بين الآيات المنظورة في الكون والآيات المنزلة بالوحي وتوظيفها نحو تحقيق وتعزيز المعرفة بالله تعالى فكلها آيات ( علامات ) دالة على الله تعالى وهذه أهم وظيفة للعلم .
ومعرفة الله تعالى ممكنة بواسطة العقل المجرد -إجمالا لا تفصيلا- فكثير من العلم بالله لا يمكن حصوله بالعقل بعيدا عن الوحي كما لا يمكن حصوله بالعلم التجريبي ولكن يبقى دور العقل والعلم ضبط بوصلة التوجه نحو معرفة الله تعالى من خلال مفهوم الآيات المنظورة في الكون أو المعلومة بالعقل فالإسلام يعمل على توظيف العلوم نحو مغزى وغاية سامية ولا يقف عند الظواهر ولعل من أعظم دلالات القرآن الكريم في هذا الربط بين العقل والآيات الكونية والنقل في معرفة الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وهو يجادل قومه ليصل بهم إلى اليقين بالله تعالى بعيدا عن عالم الظواهر المجردة والوقوف عندها أو اتخاذها آلهة من دون الله قال تعالى:(وَكَذَ ٰلِكَ نُرِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِیَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِینَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَیۡهِ ٱلَّیۡلُ رَءَا كَوۡكَبࣰاۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَاۤ أُحِبُّ ٱلۡـَٔافِلِینَ * فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغࣰا قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَىِٕن لَّمۡ یَهۡدِنِی رَبِّی لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّاۤلِّینَ * فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةࣰ قَالَ هَـٰذَا رَبِّی هَـٰذَاۤ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَتۡ قَالَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ * إِنِّی وَجَّهۡتُ وَجۡهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِیفࣰاۖ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ )الأنعام ٧5-٧٩
ثانيا: معرفة الوجود الظاهري:
لقد نادت الاتجاهات الوضعية بتنحية الأفكار الفلسفية والميتافيزيقية جانبا عند دراسة الظواهر الوجودية ليكون الأمر وصفيا محضا بعيدا عن التعمق في الغايات والمقاصد الماورائية لتلك الظواهر ومن أبرز رموز هذا الاتجاه الفيلسوف (أوغست كونت) وبالتالي فإن وظيفة العلم وحدوده ودوره تختلف باختلاف الاتجاهات الفلسفية والعلمية، ولما كان الإسلام مغايرا للتوجهات الوضعية وله منهجيته الخاصة في العلوم وكان الوحي هو المصدر الأساس للعلم اليقيني سواء في عالم الغيب أو الشهادة فإنه ينطلق من ما يمكن تسميته بالمدرسة التوحيدية الجامعة للوحي والعقل والتجارب الحسية في سياق راشد متجها بالعلم نحو وظيفة عميقة في دراسة الظواهر الوجودية وذلك بعدم الاكتفاء بالدراسات الوصفية على أهميتها ولكنه يقوم بتفسير الظواهر وفق تصور غيبي مطلق وكلي ومحايد ومحدد من خلال منهجية القراءتين كما تقدم ( الخبر والمختبر) وهنا يمكن القول بأن العلم اليقيني هو علم الوحي المنزل ثم الانطلاق منه نحو الوجود الظاهري والإجابة على سؤال لماذا تحدث الظواهر بهذا الشكل أي سؤال المغزى والمعنى والغاية لا سؤال الوصف الذي يجيب عن الكيف والكم قال تعالى 🙁 وَلَا یَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَـٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِیرًا) الفرقان/٣٣.
ومن تتبع النصوص الشرعية وما فيها من سنن وقوانين في النفس والآفاق يجد ذلك جليا فمثلا الحديث عن كسوف الشمس وخسوف القمر لا يتم تناولهما بالجانب الوصفي أي كيف تحدث لأن ذلك يمكن العلم به من خلال العلوم التجريبية كما هو الحاصل الآن ولكنها تقدم تفسيرا عمّا وراء الظاهرة الكونية ومغزاها الذي يبنى عليه عمل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عباس:(إنّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، فَإذا رَأَيْتُمْ ذلكَ فاذْكُرُوا اللهَ) البخاري.
فالحديث عن الظواهر الكونية من زلازل وبراكين وكوارث كلها آيات يخوف الله بها عباده ويذكرهم بها عن حقيقة ما خلقوا له قال تعالى:( وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ فَظَلَمُوا۟ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا) الإسراء/٥٩
كما أن الآيات القرآنية تعمل على توظيف العلم بالظواهر الوجودية وتفسيرها للاستدلال بها على وجود الله تعالى وأنه الخالق وليس لهم خالق سواه قال تعالى:(أَمۡ خُلِقُوا۟ مِنۡ غَیۡرِ شَیۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَـٰلِقُونَ *أَمۡ خَلَقُوا۟ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا یُوقِنُونَ﴾ الطور ٣٥-٣٦
ثالثا: الإيمان باليوم الآخر:
الإسلام في تصوره للحياة الدنيا يراها مؤقتة وليست دائمة وباقية بل هي دار ابتلاء واختبار ومحل للاستخلاف المؤقت وأنه لا معنى للحياة الحقيقية إلا إذا ارتبطت بالأبد وبالتالي فإن الوقوف بالعلم عند الظواهر دون البحث في ما وراء هذه الدنيا هو نوع من الغفلة ونقص في العلم ونمط من العماية قال تعالى: (أَمَّن یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَمَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ * قُل لَّا یَعۡلَمُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَیۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا یَشۡعُرُونَ أَیَّانَ یُبۡعَثُونَ * بَلِ ٱدَّ ٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ )النمل ٦٤-٦٦.
فالإسلام يعمل على توظيف العلم للمعنى الحقيقي للحياة فإذا كانت العلوم التجريبية والعقلية يمكنها تحقيق اليقين العلمي والعيني للظواهر المشاهدة في هذه الحياة الدنيا فإن الوحي وعلومه تؤسس لليقين الحق أو حق اليقين الأخروي بالتفصيل عن يوم القيامة وما فيها من جزاء وحساب وجنة ونار وغيرها من مشاهد الآخرة التي فصلت تفصيلا بما لا مدرك للعقل والعلم التجريبي له لأنه أمر غيبي قال تعالى: (فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ *فَرَوۡحࣱ وَرَیۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِیمࣲ * وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ * فَسَلَـٰمࣱ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡیَمِینِ *وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِینَ ٱلضَّاۤلِّینَ * فَنُزُلࣱ مِّنۡ حَمِیمࣲ *وَتَصۡلِیَةُ جَحِیمٍ *إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡیَقِینِ * فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِیمِ) الواقعة ٨٨-٩٦
وقال تعالى مبينا بأن الحياة الحقيقية هي في الدار الآخرة وليس في هذه الحياة الدنيا قال تعالى: (وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ) العنكبوت/٦٤ لمزيد من التفصيل انظر أصول المنهج القرآني / الدكتور محمد المجذوب
وخلاصة القول فإن الإسلام في نظرته للعلم أوسع وأشمل وأعمق وأكثر يقينا من العلم في منظوره الوضعي لأن نظرية الإسلام المعرفية لها مرجعيتها ومصادرها ومناهجها التي ترتكز على مفهوم توحيدي لا تقسيمي للحقيقة، والحق والحقيقة هي محور العلوم كلها فمتى ما ظهرت الحقيقة فالتسليم بها واجب ولا مجال للأوهام والظنون والتخرصات والحق هو محور التنزيل الحكيم قال تعالى:( ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ لَفِی شِقَاقِۭ بَعِیدࣲ) البقرة/١٧٦، وقال سبحانه: (وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَـٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا مُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا * وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا * قُلۡ ءَامِنُوا۟ بِهِۦۤ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦۤ إِذَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ یَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ سُجَّدࣰا *وَیَقُولُونَ سُبۡحَـٰنَ رَبِّنَاۤ إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولࣰا * وَیَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ یَبۡكُونَ وَیَزِیدُهُمۡ خُشُوعࣰا ) الإسراء ١٠٥-١٠٩ وقد حرم الشارع وجرم تلبيس الحق بالباطل أو كتمان الحق بعد ظهوره حتى لا تتأسس الحياة على الباطل والوهم والخرافة وهذا منتهى ما تسعى إليه العلوم قال تعالى:( وَلَا تَلۡبِسُوا۟ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتَكۡتُمُوا۟ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ) البقرة/٤٢
دور المجتمع في النهوض بالعلم ومراكزه البحثية:
إنّ نهضة العلم في أيّ أمة لا تتحقق إلا من خلال تضافر الجهود المجتمعية لدعم المؤسسات التعليمية والبحثية، فالمجتمع المسلم مُطالَب بأن يكون شريكًا فاعلًا في مسيرة العلم، من خلال تشجيع البحث العلمي، وتطوير مؤسسات التعليم العالي، والارتقاء بجودة العملية التعليمية، مع إيلاء اهتمام خاص برعاية المواهب والنوابغ العلمية الذين يمثلون الركيزة الأساسية لمستقبل الأمة في مجالات الإبداع والابتكار.
ويُمكن بيان دور المجتمع في دعم البحث العلمي والتطوير التكنولوجي من خلال المحاور الآتية:
أولًا: التمويل والاستثمار في البحث العلمي:
- تخصيص موارد مالية كافية لدعم أنشطة البحث العلمي، سواء من خلال الموازنات الحكومية أو عن طريق الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات الصناعية.
– تحفيز رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية على الاستثمار في المشاريع البحثية والتكنولوجية، تعزيزا للمعرفة والابتكار.
ثانيًا: تعزيز دور الجامعات والمؤسسات الأكاديمية:
– تطوير المناهج التعليمية بما يتوافق مع المستجدات العلمية الحديثة، وبما يُعزّز مهارات التفكير النقدي والبحث لدى الطلاب.
– دعم إنشاء مراكز بحثية متخصصة ضمن الجامعات، وتوجيه أنشطتها نحو معالجة التحديات الواقعية التي يواجهها المجتمع.
-الاستفادة من التجارب الرائدة عالميًا في مجال إدارة البحث العلمي وربطه بالقطاعات الإنتاجية والاقتصادية.
ثالثًا: رعاية المواهب والنوابغ العلمية:
- إطلاق برامج لدعم المبتكرين والمخترعين عبر حاضنات الابتكار والمراكز البحثية المتقدمة.
– تقديم المنح الدراسية للطلاب المتفوقين، وتشجيعهم على متابعة دراساتهم العليا في التخصصات العلمية الدقيقة.
– تأسيس جوائز علمية وطنية ودولية تُحفّز التميز والإبداع، على غرار “جائزة نوبل” و”جائزة الملك فيصل العالمية”.
رابعًا: الربط بين البحث العلمي والتنمية الاقتصادية:
- السعي لتحويل مخرجات الأبحاث العلمية إلى تطبيقات عملية تسهم في تطوير الصناعات المحلية، وتدعم الاكتفاء الذاتي في المجالات الحيوية، لا سيّما في القطاعات التقنية والطبية.
- إقامة شراكات استراتيجية بين الجامعات، ومؤسسات الدولة، والقطاع الخاص، بهدف تعزيز منظومة الابتكار وتوطين التكنولوجيا.
خامسًا: نشر الوعي بأهمية البحث العلمي في نهضة الأمة:
– تعميم ثقافة البحث العلمي عبر وسائل الإعلام، والمناهج الدراسية، والبرامج التوعوية، لبيان أثره في تحقيق التقدم الحضاري والتقني.
– تعزيز دور العلماء والمفكرين في صناعة القرار، وإشراكهم في صياغة السياسات التنموية وتوجيه استراتيجيات البحث العلمي.
سادسا: توطين العلوم وأهميتها:
مفهوم توطين العلوم:
توطين العلوم هو إعادة تشكيل العلوم الوافدة لتتوافق مع السياق الثقافي والفكري المحلي، بدلاً من استيرادها كما هي بمنطلقاتها الفلسفية الغربية.
جوهر الفكرة:
- العلم ليس محايدًا دائمًا، بل تحكمه خلفيات فكرية وفلسفية.
- المطلوب: تحرير العلوم من الإطار الفلسفي الغربي، وبناؤها ضمن مرجعية الأمة وقيمها الحضارية.
أهمية توطين العلوم:
- تحقيق الاستقلال المعرفي.
- حماية الهوية الثقافية من الذوبان.
- جعل العلوم أداة نهضة تنبع من الداخل لا تُفرض من الخارج.
- إنتاج علوم تخدم المجتمع بدل أن تعيد إنتاج رؤى وافدة قد لا تناسبه.
التوطين ليس انغلاقًا على الذات بل هو موقف نقدي متوازن، يجمع بين الاستفادة من منجزات العلوم الغربية، وبين إعادة توجيهها لتكون جزءًا من مشروع حضاري مستقل.
وعليه فالتوطين هو الطريق نحو علم منتمٍ إلى الذات الحضارية، وناهض من داخل المجتمع لا تابع لغيره.
وخلاصة القول فإنّ النهوض بالعلم مسؤولية جماعية تتجاوز إطار الدولة إلى كل مكونات المجتمع، أفرادًا ومؤسسات، فالمجتمع الذي يُعلي من قيمة العلم، ويحتفي بالعلماء، ويستثمر في مجالات البحث والابتكار، هو المجتمع القادر على بلوغ الريادة الحضارية. وإنّ الازدهار العلمي هو الركيزة الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة، والاستقلال الاقتصادي، وتعزيز المكانة الدولية للأمة الإسلامية.
التحديات التي تواجه البحث العلمي في العالم الإسلامي:
يُعدّ البحث العلمي ركيزة أساسية في تقدم الأمم واستقلالها، غير أن العالم الإسلامي لا يزال يواجه تحديات هيكلية تعيق تطوره وتعزز تبعيته المعرفية والتكنولوجية وتتمثل أبرز هذه التحديات فيما يلي:
1/ ضعف الاستثمار في التعليم والبحث العلمي:
تُعاني معظم الدول الإسلامية من تدنّي معدلات الإنفاق على مؤسسات التعليم والبحث العلمي، مقارنة بالدول الصناعية الكبرى، مما يؤثر سلبًا على جودة المخرجات البحثية ويُضعف من كفاءة المنظومة التعليمية والمعرفية.
2/ الاعتماد على الخارج في المجالات الحيوية:
يسهم ضعف البحث العلمي المحلي في زيادة الاعتماد على الدول الأخرى في القطاعات الاستراتيجية كالصحة والتكنولوجيا والصناعات المتقدمة، وهو ما يُقوّض استقلالية القرار العلمي والاقتصادي، ويُكرّس التبعية التقنية، ويُبرز الحاجة الملحة إلى مشروع توطين العلوم.
3/ هجرة الكفاءات والعقول:
تواجه الدول الإسلامية ظاهرة مستمرة في نزوح العقول إلى الدول الغربية، نتيجة لافتقار البيئة البحثية المحلية إلى الدعم والتحفيز، مما يحرم المجتمعات الإسلامية من طاقاتها المؤهلة ويُضعف قاعدة الإنتاج المعرفي فيها.
4/ ضعف البيئة المحفّزة على الإبداع والابتكار:
تُعاني المؤسسات البحثية من نقص الحوافز المادية والمعنوية، وغياب سياسات فعالة لاحتضان الأفكار الإبداعية، مما يؤدي إلى انخفاض معدلات الابتكار، ويحدّ من إمكانات البحث العلمي كمحرك للتنمية.
5/ غياب التكامل بين البحث العلمي والقطاعات الإنتاجية:
لا يزال التعاون بين مؤسسات البحث الأكاديمي والقطاعات الصناعية والتقنية ضعيفًا، ما يؤدي إلى فجوة بين الجهد العلمي النظري ومتطلبات التطبيق العملي، ويحول دون تحويل نتائج الأبحاث إلى حلول واقعية تخدم خطط التنمية.
خلاصة وختام:
العلم في الرؤية الإسلامية هو إدراك الحقائق بأدلتها اليقينية في كلياتها وجزئياتها على نحو مطلق، ويتم تحقيق هذا الإدراك بصورة كاملة وشاملة من خلال الوحي الإلهي، أما بقية مصادر المعرفة، فهي تُعَد وسائل مساعدة تكمّل الصورة لكنها لا تحقق الإدراك المطلق للحقائق ويمكن تخليص القول في مميزات العلم في التصور الإسلامي بما يلي:
1/التمييز بين العلم والمعرفة:
يستخدم القرآن الكريم مصطلحي “العلم” و”المعرفة”، لكن هناك تمييزًا دقيقًا بينهما، فغالبًا ما يُوصف الله سبحانه وتعالى بصفة العلم والعالم ، بينما يُوصف الإنسان بالمعرفة، ولا يوصف الله عز وجل بها، فلا يقال الله عارف ولكنه عالم وعليم وهذا يدل على أن العلم في القرآن الكريم يحمل دلالات يقينية وأن العلم الحق هو علم الله تعالى ، ويشمل إدراك الحقائق في أبعادها الشاملة، بينما المعرفة ترتبط بالقدرة البشرية المحدودة على الفهم والاستنتاج وهي ذات دلالات ظنية وليست يقينية إلا إذا ارتبطت بالوحي والعلم عن الله تعالى كما في قوله تعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء: 113، وأما المعارف المنسوبة للإنسان فهي كثيرة ووردت في القرآن باسم المعرفة كما في الآيات التالية:
﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ محمد: 30
﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾ البقرة/273
﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ النحل: 83
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ الأنعام: 20
﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ يوسف /58
وخلاصة القول العلوم تكتسب صفة اليقين بارتباطها بالوحي المنزل من الله تعالى وتكون معارف ذات طابع ظني وليس يقيني كلما ابتعدت عن الوحي أو اكتفت بالظواهر في بعدها الوصفي دون الغوص في دلالاتها العميقة الموصلة إلى الحق جل جلاله.
2/ اقتران العلم التجريبي بالمعرفة الإنسانية:
يربط القرآن الكريم بين التجربة الحسية والمعرفة الإنسانية، حيث يحث الإنسان على التدبّر والتفكّر والتعقّل من خلال إعمال الحواس والتأمل في الظواهر الطبيعية، كما في قوله تعالى): أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ * وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ رُفِعَتۡ * وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ * وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ (الغاشية: 17-20
كما يؤكد القرآن على أن الآيات الكونية والنفسية هي دليل على الحقائق المطلقة التي يكشفها الله للإنسان مع الزمن، حيث يقول تعالى:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فصلت: 53.
3/ العلم في الإسلام موضوعي ومحايد:
في التصور الإسلامي، العلم المنزل من الله محايد وموضوعي، فهو ليس موجهًا لفئة معينة أو مرتبطًا بأيديولوجيات أو مصالح شخصية، بل هو هداية لجميع البشر، سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين. ولذلك نجد أن القرآن يصفه الله تعالى بأنه:
(هُدًى لِلنَّاسِ (البقرة: 185(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (البقرة: 2(هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ (يونس: 57
وهذا يعني أن الحقائق العلمية المستمدة من الوحي مفتوحة أمام الجميع، لكنها تتجلى بشكل أوضح لأهل الإيمان ولمن يسعون للحق بصدق.
4/ تكامل العلم في الإسلام:
العلم في القرآن الكريم علم توحيدي لا يؤمن بالفصل بين مجالات المعرفة المختلفة، فلا يوجد تناقض بين العلم الدنيوي والعلم الشرعي، كما لا يمكن أن يتعارض الوحي الإلهي مع العقل السليم أو مع نتائج البحث العلمي والتجربة الحسية فالحقائق العلمية متسقة ولا تتناقض، ومن هنا يؤكد القرآن الكريم على أن المعرفة الحقيقية لا تعاني من التشويش أو التناقض لقوله تعالى:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ٱخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء: 82.
وهذا التكامل في الرؤية العلمية الإسلامية يُنتج الاستقرار النفسي والعقلي، حيث يعيش الإنسان في انسجام فكري، دون تعارض بين إيمانه الديني ومعرفته العلمية.
5/ العلم في الإسلام أداة للتوجيه الأخلاقي والغاية النهائية:
لا يقتصر العلم في التصور الإسلامي على الوصف والتقرير والإخبار، بل يتجاوز ذلك إلى الجانب المعياري بإرشاد الإنسان نحو الغاية النهائية من وجوده، فالعلم ليس هدفًا في حد ذاته، وإنما هو وسيلة تقود الإنسان إلى:
- التعرف على الله تعالى وإدراك عظمته.
- تعزيز الخشية والخوف من الله، كما في قوله تعالى:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” (فاطر: 28.
- الإعداد للحياة الآخرة، حيث لا يقتصر على البحث عن كيفيات الظواهر وقياسها، بل يوجه الإنسان لفهم الغايات والحكم من وراء هذه الظواهر.
- تعزيز أخلاقيات البحث العلمي، بحيث يكون العلم مسؤولية أخلاقية، وليس مجرد أداة لتحقيق المصالح المادية.
وبهذا المفهوم الذي تحدثنا عنه يصبح العلم في الإسلام أكثر من مجرد تراكم للمعرفة، بل هو مسار متكامل يجمع بين الوحي والعقل والتجربة، لتحقيق فهم شامل للحياة والكون والغاية من الوجود، فهو ليس علمًا مجردًا، بل علمٌ يؤدي إلى الإيمان، ويحث على التفكير النقدي، ويساعد الإنسان على العيش في انسجام بين العقل والدين، بين المادة والروح، وبين الدنيا والآخرة.
اللهم علمنا ما جهلنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.