الإرتريون المسلمون: بين إرث المقاومة للمحتل  وآفاق المدافعة للاستبداد من ذاكرة النضال إلى مشروع المستقبل

1 أكتوبر 2025 52

المقدمة:
الحمد لله الذي أكرم الأمة بالإسلام، وشرّفها بحمل رسالة العدل والحرية، والصلاة والسلام على خير من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

فإنّ الشعب الإرتري المسلم يحمل في طيات تاريخه رصيدًا حضاريًا وإنسانيًا عميقًا، تشهد به ملامح الهوية، ومواقف النضال، ومسيرة الصمود الممتدة لعقود. هذا الشعب الأصيل لم يكن يومًا على هامش التاريخ، بل كان في صلبه، مسهمًا في بنائه، ودافعًا في اتجاه تحرير الإرادة واستعادة الكرامة.

لقد نشأت العلاقة بين هذه الأرض والإسلام منذ الهجرة الأولى للصحابة إلى الحبشة، حين استقبلتهم هذه البلاد واحتضنت دعوة التوحيد، وارتبط الدين منذ ذلك الحين بالوجدان الإرتري، فلم يكن طارئًا على الهُوية، بل أحد أبرز ملامحها الثقافية والحضارية.

ومع ذلك، فإن استدعاء الماضي لا ينبغي أن يكون نوعًا من التعلق العاطفي، بل بوابة لفهم الواقع واستشراف المستقبل. فالتاريخ، مهما كان مجيدًا، لا يُثمر ما لم يتحول إلى مشروع عملي واعٍ، يعالج مواطن الضعف، ويستثمر نقاط القوة، ويُقدّم رؤيةً شاملة للنهوض.

 

أولًا: عناصر القوة الكامنة في التجربة الإرترية المسلمة:

: 1. جذور دينية راسخة

يتميّز المسلمون في إرتريا بانتماء ديني أصيل ومتجذر، تشكّل عبر قرون من التفاعل الحضاري والدعوي، وظلّ فاعلًا في صياغة وعي الجماهير، وباعثًا روحيًا في كل لحظة نضال ضد أشكال  الاحتلال المتعاقب ومحاولات التذويب الثقافي. لقد ظلّ الإسلام، بكل ما يحمله من قيم العدالة والكرامة والعزة ، حافزًا للمقاومة، ومصدرًا للتماسك في وجه محاولات الاقتلاع المستمرة حتى يومنا هذا .

  1. إرث نضالي مشهود:

ليس غريبًا أن يتسم الشعب الإرتري المسلم بروح المقاومة، فقد خاض معارك طويلة ضد الاستعمار الإيطالي، والوصاية البريطانية، ثم الاحتلال الإثيوبي، وشارك في تحرير البلاد بثقل نوعي، وبشهادة الشهداء والقرى المحروقة، والأمهات الثكالى. كان هذا النضال نابعًا من وعي حضاري بأن الحرية لا تُستورد، بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُصان بالتضحية والفداء.

  1. حضور النخب والتنظيمات:

رغم القمع السياسي الممنهج، لا تزال هناك تنظيمات تمثّل الطيف الإسلامي، وقوى فاعلة في الداخل والخارج. كما تمتلك الساحة الإرترية رصيدًا من الكفاءات العلمية والسياسية والدينية التي يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في قيادة المشروع النهضوي، إذا ما توفرت الإرادة وتم تجاوز العوائق البنيوية

ثانيًا: التحديات الراهنة ومظاهر الضعف:

  1. الانقسام الداخلي وتآكل الثقة:

من أبرز مظاهر الضعف، غياب التنسيق والتكامل بين المكونات الإسلامية المختلفة، بسبب الولاءات الجزئية (القبلية، الجهوية، التنظيمية)، ما أضعف الأداء المشترك، وأدّى إلى تشرذم الجهود، وغياب العمل التشاركي.

 2.غياب القيادة الجامعة:

يفتقر المسلمون إلى كيان مرجعي جامع يُعبّر عنهم داخليًا وخارجيًا، ينسّق السياسات، ويقود الخطاب، ويُمثّل المواقف الجامعة. غياب هذه المرجعية ترك فراغًا استراتيجيًا خطيرًا، وفتح المجال للاجتهادات الفردية المتضاربة.

  1. ضعف التأثير الإعلامي:

لا يملك المسلمون في إرتريا مؤسسات إعلامية قوية تُعبّر عن قضاياهم وتُصحح صورتهم، في ظل تغييب ممنهج لهويتهم في المناهج ووسائل الإعلام الرسمية، وتهميشهم في السرديات الوطنية والدولية، ما جعل الأجيال الجديدة عرضة للاغتراب الفكري والتشويش الثقافي.

  1. الهجرة ونزيف الكفاءات:

بسبب غياب البيئة الآمنة داخل البلاد، اضطرت كثير من النخب المؤهلة إلى الهجرة، ما أحدث فجوة خطيرة بين الداخل والشتات، وأفقد المجتمع رصيدًا كان يمكن أن يساهم في التنمية والقيادة والفاعلية داخل البلاد.

:  5. الانكفاء عن الفعل السياسي

رغم الثقل السكاني، إلا أن مشاركة المسلمين في العمل السياسي ضعيفة، بسبب عوامل داخلية (قمع الدولة، وضعف الوعي السياسي)، وأخرى ذاتية (اللامبالاة، فقدان الثقة)، وهو ما رسّخ التهميش وأضعف الـاثير والفاعلية في الخارج.

  1. الاختراق الثقافي والحرب على الهوية:

يتعرض الشباب الإرتري لتحديات خطيرة تهدد هويته، أبرزها التغريب والتذويب  الثقافي، وانتشار الإلحاد، والانجراف نحو ثقافات دخيلة، ما يتطلب جهودًا نوعية في ترسيخ الهوية الإسلامية، واستعادة الدور التربوي والثقافي للمؤسسات الإسلامية.

 

ثالثًا: من مقاومة الاحتلال  إلى مدافعة الاستبداد – ملامح مشروع التجديد:

  1. بناء مشروع وطني جامع:

الحاجة ماسة إلى بلورة رؤية وطنية تتسع للجميع، تُعبّر عن خصوصيات المسلمين، وتحترم التعدد، وتُبنى على قيم الحق والخير ، والعدالة والحرية ، والمشاركة المتوازنة، ضمن مشروع سياسي واضح المعالم.

  1. تأهيل الكفاءات وبناء النخب:

لا نهضة ولا مدافعة بدون كوادر واعية، لذا لا بد من برامج لتأهيل القيادات الشابة، وتطوير الكفاءات العلمية، وربط التعليم بالهوية، وتوسيع قاعدة المشاركة عبر مبادرات مدنية وتربوية فاعلة.

  1. تحقيق التنسيق والوحدة:

الوحدة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية، يجب تغليب المصلحة العليا، وبناء أطر جامعة تضمن التنسيق بين القوى السياسية والدعوية والاجتماعية، وتمنع التفرق والتنازع.

  1. تفعيل الإعلام الرسالي:

يجب بناء إعلام احترافي حديث، يُخاطب الداخل والخارج بلغة العصر، ويوظّف التكنولوجيا والمنصات الرقمية، ليُعيد تشكيل الوعي، ويُعرّف بقضية المسلمين الإرتريين على كافة الصعد الإقليمية و الدولية.

  1. ربط الداخل بالمهجر:

لا يمكن تجاوز التحديات دون تفعيل الجسر بين الداخل والشتات، عبر مشاريع تنموية مشتركة، وبرامج دعم ومواكبة، وشبكات تواصل فعالة، تسهم في نقل الخبرات وتعبئة الموارد.

  1. تعزيز الحضور السياسي:

لابد من صناعة واجهات سياسية قوية تعبّر عن المسلمين وتُدافع عن حقوقهم، وتشارك في صناعة القرار، وتُبرزهم كقوة واعية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها.

  1. امتلاك مقومات القوة الصلبة:

إن الصراعات السياسية لن تحسم دوما بالأدوات الناعمة بل تحتاج في بعض الأحيان إلى العمليات الجراحية واستخدام أدوات القوة الصلبة وخاصة في مواجهة نظام لا يتيح فرصة للعمل السياسي والمدني وقد تحكم في المجال العام والخاص وكل ما يؤمن به هو الحسم بالقوة التي تدخر وسعًا في تصفية الخصم وتغييب وجوده بلا رحمة .

 

  1. إحياء الهوية الإسلامية:

الهوية ليست شعارًا، بل منظومة قيمية ومعرفية وتربوية، يجب دعم التعليم الإسلامي، وإحياء اللغة العربية، وربط الأجيال بتاريخها، وبناء خطاب ثقافي يُحصّن من التغريب والتيه والتبعية العمياء للغالب دون وعي بالذات ومرتكزاتها ومنطلقاتها.

وختاما:

فإن الشعب الإرتري المسلم ليس شعبًا هشًّا أو طارئًا على الجغرافيا والتاريخ، بل هو وريث حضارة، وصاحب رسالة، ومكوّن أصيل من نسيج الوطن، يحمل في ذاكرته مزيجًا من المعاناة والأمل، وفي وجدانه وعيًا بأن الطريق إلى الكرامة لا يكون إلا بالوحدة، والعلم، والعمل، والتمسّك بالثوابت.

فما بُني بالدماء يجب ألّا  يُهدَم بالتقاعس، ومن عرف طريق المقاومة، لا يرضى بالهزيمة
ولن يغيّر الله ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

“وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون…”قال تعالى:

كتبه: عبدالله العلوي

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *