المثقف والثقافة والمجتمع

7 سبتمبر 2024 119

يختلف كل من مصطلح (المثقف) ( Intellactual ) أو ( Intelligensia ) و ( المجتمع) (Society) عن الآخر في مدلوله الخاص، لكن بما أن المثقف هو المعبر عن (الثقافة) ( Culture) والمنطلق منها في معالجاته لإشكالياتها، ونقده لمظاهرها، واعتزازه بثوابتها الإيجابية، ونفوره عن سلبياتها، من الضروري تحديد معنى المثقف أولا ثم (الثقافة) ثانيا.

وقبل هذا أن مصطلح ( المثقف ) Intellactual في الأصل ” أطلقت على العاملين في مجال الفكر والأدب تحديدا، والذين اتخذوا مواقف من الشأن العام في فرنسا القرن التاسع عشر، بصفتهم مثقفين[1] “.

وهنالك تعريفات عديدة للمثقف من هو بالتحديد؟ تتعدد بتعدد الاختصاصات العلمية، أو الانتماءات الفكرية، والوجهات الفلسفية، وحسبنا ذكر نماذج منها لمجرد تكوين تصور عام عن المثقف من هو؟ دون التعمق في المقارنة بينها وذكر الفوارق أو الميزات والخصائص.

وفي هذا المسار التنوعي لمعنى المثقف، يرى لويس فويير ” أن المثقف هو المتعلم والمهني من الطبقة الوسطى الذي يختلف عن من يعمل بالصناعة والتجارة، من الطبقة العليا والطبقة الدنيا. بينما يرى عالم الاجتماع في جامعة شيكاغو إدوارد شيلز( 1910- 1995م ): أن المثقف هو الشخص المتعلم الذي لديه طموح سياسي، إما مباشرة بالسعي لكي يكون حاكما لمجتمعه، أو طموحات غير مباشرة للسعي إلى صياغة ضمير مجتمعه، والتأثير على السلطة السياسية في صياغة القرارات الكبرى [2]“.

وفي تعريف عالم الاجتماع البريطاني بوتومر ” أن المثقفين هم عبارة عن جماعة صغيرة، تتألف من أولئك الذين يسهمون مباشرة في نقل ونقد وابتكار الأفكار، وهي [يعني هذه الجماعة الصغيرة ] عبارة عن الفنانين، والفلاسفة، والعلماء، والمؤلفين، والمفكرين، والمتخصصين في النظريات الاجتماعية، والمعلقين السياسيين[3] “.

وأما الثقافة فقد عرفها عالم الإنثربلوجيا البريطاني إدوارد تايلور ( Edward Taylor) على أنها ” ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين [4]“.

وباختصار (الثقافة) هي: مجموعة من المعتقدات الدينية والموروثات الفنية والاجتماعية، الخاصة بكل مجتمع على حدة في علاقاته بأفراحه وأتراحه وأفراده، وهي متجددة بتجدد الأجيال، ومتغيرة بتغير الأحوال، وغير جامدة أبدا في كل مفاهيمها، لكنها ذات أصول متجذرة وثابتة.

مفهوم المجتمع وعلاقته بالثقافة والمثقف

وأما ( المجتمع ) فكما يعرفه مالك بن نبي هو: تجمع أفراد ذوي عادات متحدة، يعيشون في ظل قوانين واحدة، ولهم فيما بينهم مصالح مشتركة..[5]“.  

وفي ربطه إياه بعامل الزمن، يعرف بن نبي المجتمع على أنه ” الجماعة التي تغير دائما خصائصها الاجتماعية، بإنتاج وسائل التغيير، مع علمها بالهدف الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير[6] “.

وبهذا أن المجتمع في فلسفة بن نبي ” هو ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين، ذو طابع إنساني، يتم طبقا لنظام معين[7] “.

ويعرف إيليا حريق المجتمع على أنه ” جماعة تصل بينها روابط وفاق، أو تشريع، أو تقليد، أو عرف، يشمل الأمر والنهي والحساب [8]“.

وبناء على هذه التعاريف للمجتمع، لا يمكن أن نتصور مجتمعا من دون ثقافة، ولا ثقافة من دون مجتمع، ولا مجتمع من غير مثقف، ولا مثقف من غير حراك ثقافي تغييري نحو الهدف المعلوم.

وكل من هؤلاء موصول بالآخر، ومرتبط به إلى حد عدم الانفكاك، بحكم أن الثقافة عامل مع عوامل المصلحة المشتركة الجامعة لأفراد هذا المجتمع والمحددة لنمط النظام المعين الذي يشمله وينضوي تحته.

والمثقف بوصفه معبرا عن هذه الثقافة، فهو موصول بها أيضا، كما هي موصولة به، والاثنان معا موصولان بالمجتمع، كما المجتمع موصول بهما، والثلاثة معا يمثلون ركائز الاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي، والنمو الثقافي، متى اختلت علاقة أحدهم بالآخر لسبب ما، اختل عامل الاستقرار السياسي، مستصحبا معه تدهورا اقتصاديا، وانهيارا اجتماعيا، واختلالا أمنيا، وهو ما يعني شدة التصاق المثقف والثقافة بتدافعات السلطة والثروة.

وهو ما يعطي المثقف أهمية أساسية وكبيرة في عملية التغيير المجتمعي، فكثير من الحراك السياسي وتفاعلاته، كان من ورائه قلم المثقف، وحراك المثقف، وفكر المثقف، أيا كانت عقيدة هذا المثقف، وأيا كان إنحيازه الطبقي والفكري، ففي الإسلام نجد ـ على سبيل المثال ـ علماء ومفكرين، العز بن عبد السلام، وابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، والشهيدين حسن البنا، وسيد قطب، والدكتور حسن عبد الله الترابي.

وفي خارج الدائرة الإسلامية، في الاتجاهات الثورية التي أحدثت تغييرا مدويا ومؤثرا، نجد مانديلا، كما نجد كارل ماركس، ولينين، وماوتس تونج، وكاسترو…الخ.

وفي اعتقاد ” ماوتس تونج، أنه بدون مشاركة المثقفين، يكون النصر في أية ثورة مستحيلا، ويضيف أنه يجب أن يكون لدينا جيش ثقافي؛ لأن هذا الجيش ضروري جدا لتوحيد صفوفنا وهزيمة العدو[9]” .

ويستخدم الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي مصطلح ( المثقف العضوي) في حديثه عن علاقة المثقف بمجتمعه، فيقول: ” فئة المثقفين العضويين الذين يضطلعون بمهمة إنضاج الثورة في الأوساط الشعبية، وداخل النقابات، ومؤسسات الحزب، والمؤسسات التربوية، وعن طريق الماكينة الإعلامية أيضا، فهؤلاء المثقفون العضويون هم من يخوضون الصراع في مؤسساته الفوقية، ممثلة في الأيديولوجيا التي تفعل فعلها [10]“.

والمثقف العضوي هو المثقف الملتحم بشعبه، والحامل لهمومه، والمناضل في سبيل الوصول إلى أهدافه المشروعة، وحقه المهضوم.

وفي الإطار الإرتري، ما كانت جبهة تحرير إرتريا لتكون وتوجد، ومن قبلها حركة تحرير إرتريا، ومن بعدها الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، ثم الحركة الاسلامية الارترية، من غير قلم المثقف ونشاطه الفكري والسياسي، أيا كانت وجهته الفكرية، وتأثره الفلسفي، ومهما كان حظه من الثقافة والتعليم.

وكتبه/ أ.د. جلال الدين محمد صالح

لندن

28/8/2024


[1] – بشارة، عزمي، في الثورة والقابلية للثورة، الدوحة، المركو العربي للأبحاث، ودراسة السياسات، ط، الأولى، 2016م، ص 104

[2] – مرتضى، مصطفى، المثقف والسلطة، القاهرة، روابط للنشر، ط، الأولى، 2016م، ص 37

[3] – المصدر نفسه، ص 38

[4] – المحمداوي، علي عبود، خطاب الهويات الحضارية من التصادم إلى التسامح، ابن النديم، الجزائر، ط، الأولى 2012م، ص 27-28

[5] – بن نبي، مالك، ميلاد مجتمع، دمشق، دار الفكر، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط، السادسة، 2006م، ص 15

[6] – المصدر نفسه

[7] – المصدر نفسه، ص 17

[8] – حريق، إيليا، الديمقراطية وتحديات الحداثة، مصدر سابق، ص 58

[9] – المصدر نفسه، ص 43

[10] – حسني، محمد يحيى، مفهوم المجتمع المدني لدى أنطونيو غرامشي من خلال كراسات السجن من التثير إلى الحياد، برلين، المركز الديمقراطي العربي للنشر، ط، الأولى 2017م، ص 73

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *